الأعمال الشعرية لسليم النفّار.. إرث شاعرٍ من شهداء حرب الإبادة

“رحل سليم النفّار مبكراً، أخذته الحرب فيما أخذت ممن نحب، استشهد يوم الخميس في السابع من كانون الأول، في اليوم الثاني والستين للعدوان الذي تشنّه قوات الاحتلال على شعبنا في قطاع غزة.. قصفت الطائرات البناية التي يعيش فيها سليم في غرفة صغيرة أسفلها مع زوجته وبناته وابنه، وأخيه سلامة وزوجته وأبنائه وبناته، بعد أن ترك شقّته إثر تعرض المربع السكني الذي يعيش فيه للقصف أكثر من مرّة.. اختفى سليم تحت الركام، ولم يتيقن أحد ممّا حدث”.
بهذه العبارات دشّن الروائي عاطف أبو سيف، وزير الثقافة الفلسطيني السابق، مقدمة الأعمال الشعرية للشاعر الشهيد سليم النفّار، الصادرة حديثاً عن وزارة الثقافة الفلسطينية.
ودُشّنت الأعمال بقصيدة حملت عنوان “شهيد”، كان نظمها الشاعر الشهيد، قائلاً فيها:
جاءها الخبرُ الرصاص
ينهبُ الذاكرة
لم تكن على أهبةٍ للانتحاب
هي لم تره
وكان الوقتُ من ماس
والماسُ من دمع
فتذكّرتْ غيمتين
لاحتا
في أفق عينيه
آه بنيّ!!
كان الوداع أغنية
لكنه..
آهٍ كان يعلم
فبكتْ بضعاً منها
في رمال الذاكرة!

وفي مقدمته التي حملت عنوان “في استذكار سليم النفّار”، واصل أبو سيف سرد الحكاية: “كتبتُ على صفحتي في فيسبوك بعد يومين من اختفاء سليم التالي: بخصوص الصديق والأخ والشاعر الجميل سليم النفّار، الشائع أنه كان هو وعائلته في بناية بحي النصر استهدفها الاحتلال، وقتل كلّ من فيها يوم الخميس الماضي.. أبلغني في الليلة ذاتها الصديق وزميلنا في الوزارة عائد أبو سمرة، لكنه بدا غير واثق ممّا قال.. أجريت أنا وزملائي في الوزارة المقيمون في غزة عشرات المكالمات مُحاولين استجلاء الأمر، لكننا لم نصل لنتيجة محدّدة.. يوم أمس، هاتفت نجل ابن عمه أبو كمال، وأخبرني أنّ جاراً لهم أخبره أن أخته وهي زوجة سلامة شقيق سليم وزوجها وأولادها، وسليم وزوجته وبناته وابنه الوحيد مصطفى استشهدوا خلال قصف البناية التي لجؤوا إليها خلال اجتياح حي النصر الذي يقيمون فيه.. أيضاً أحد الجيران أبلغ زميلاً لنا في الوزارة أنه ذهب لانتشال جثمان عمّته التي تقيم في البناية المستهدفة، وأنه يؤكد أن الأستاذ سليم وعائلته تحت الركام.. قبل قليل أخبرني نجل ابن العم أبو كمال، أن والده، وهنا فهمتُ أنّ والده ما زال يقيم في حي النصر، آخر ما يعرفه أن سليم والعائلة تحت الركام”.
وشدد أبو سيف على أن النفّار أتم الستّين عاماً قبل أسابيع، وأنه قبل أسابيع من الحرب “كان بيننا في وزارة الثقافة، وشاركنا فعاليات معرض فلسطين الدولي للكتاب في دورته الثالثة عشرة”، هو الذي عمل في الوزارة وفي اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، كما كان عضواً في الأمانة العامة لاتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيّين، حيث عملا سوياً لثماني سنوات، مؤكداً أن “رحيل سليم خسارة كبيرة للثقافة الفلسطينية وللشعر الفلسطيني، فخلال سني عمره الستين استطاع سليم أن يقدّم تجربة شعرية فريدة جعلت من الوطن مركزاً، وبحراً تسير فيه القصيدة، تبحث عن معادله وما يوازيه من الصورة والخيال”.
ومن القصائد التي تضمنها كتاب أعمال النفّار الشعرية، تلك التي حملت عنوان “موت”، وهي واحدة من قصائد كان جمعها النفّار تحت عنوان “مواقف”، وجاء فيها:

كان قريباً منّي
وكنتُ أسمّيه بأسماءٍ شتّى:
كنّا نلعب بالحبلِ وبالغُمّاية والفَنّة
أمّا اليوم
فيمرّ بلا حذرٍ منّي
وأمرّ كذلك

والنفّار هو ذلك الطفل الذي ولد في مخيم الشاطئ للاجئين الفلسطينيين في شمال قطاع غزة قبل احتلال عام 1967، وتحديداً عام 1963، ثم اضطر مع عائلته للنزوح إلى سورية بعد “النكسة”، وعاش في مخيم الرمل قرب اللاذقية، حيث بدأت تتفتح قريحته الشعرية، ونشر قصائد متفرّقة في صحف ومجلات الثورة الفلسطينية، والصحف السورية المختلفة قبل أن يلتحق بقوات منظمة التحرير الفلسطينية في قاعدة السّارة في ليبيا، ومن ثم يعود إلى غزة مع تلك القوات عام 1994، على إثر اتفاقيات “أوسلو” وتأسيس السلطة الفلسطينية، هو الذي كان مناضلاً في جبهة النضال الشعبي، وشغل عضوية لجنتها المركزية لأكثر من دورة.
نشر في غزّة ديوانه الأول “تداعيات على شرفة الماء” (1996)، ثم ديوانه الثاني “سور لها”، فالثالث “بياض الأسئلة”، والرابع “شرف على ذلك المطر”، والخامس “حالة وطن وقصائد أخرى”، وآخرها “حارس الانتظار” (2021)، وهي المجموعات الشعرية التي تضمّن كتاب أعماله الشعرية الصادر حديثاً عن وزارة الثقافة الفلسطينية قصائد منها، إضافة إلى قصائد غير منشورة في مجموعات شعرية كان كتبها النفّار في صحف أو مجلات فلسطينية وعربية، أو عبر صفحته الشخصية في موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” حتى آب 2023.
ورغم أنه سليم النفّار كتب الرواية أيضاً كـ”فوانيس المخيّم”، و”ذاكرة ضيّقة للفرح”، و”ليالي اللاذقية”، إلا أنه يبقى حاضراً كشاعر بشكل أكثر سطوعاً، بحيث شكّل في العقود الثلاثة الأخيرة حالة شعرية في قطاع غزة، إذ تحفل قصائده بالحنين إلى البلاد التي سرقتها العصابات الصهيونية من أجداده، ثم سرقها جنود الاحتلال منه، بعد أقل من عشرين عاماً على السرقة الأولى، علاوة على رصد التحولات في قطاع غزة بتوثيقه شعرياً ليوميّاتها بلغة شفافة وغير مُتكلفة.
ويذكر عاطف أبو سيف أن “سليم فتن بحكاية أمه وجدّته عن يافا التي كان جدّه بحّاراً فيها، وورث منه ابنه، أي والد سليم المهنة التي قادته بعد ذلك للالتحاق بالثورة الفلسطينية، والمساهمة في تأسيس بحريّتها، والمشاركة في عمليّات فدائية بالبحر ضد الاحتلال إلى أن استشهد في عملية نهاريا عام 1973”.
واستذكر أبو سيف مساهمة النفّار وإياه ومثقفين آخر بتأسيس جماعة “الكروان” الأدبية في غزة، تسعينيات القرن الماضي، وأخذت اسمها من مكان اجتماعاتها الدورية في مقهى الكروان التاريخي، والتي يرى أن جلساتها شكّلت حالة ثقافية في غزة لسنوات، وارتادتها أسماء كبيرة كحمد حسيب القاضي، وغريب عسقلاني، ومروان برزق، وزكي العيلة، وسهيد جعفر فلفل ممّن كانوا يعيشون في غزة، أو ممّن زاروها كمحمد القيسي، وفيصل قرقطي، وغيرهما، لافتاً إلى أن سليم “كان مُحرّكاً أساسيّاً في جعل لحظة الكروان الفاعلة ممكنة”، وإلى أنه “كان يُلقي قصائده، ويُناقش الآخرين فيما يقرؤون”.