الأمن المائي في عالم مضطرب ..ميسا الجيوسي

 
يحاول هذا المقال إلقاء الضوء على قضية الأمن المائي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في ظل ما يواجهه العالم من تحديات جمة في هذا المجال الحيوي الهام. ومن الجلي أن التعقيدات التي تكتنف هذا المجال تتجلى بشكل أكبر وتترك بصمة أشد وطأة وأعمق تأثيراً على عدد من دول منطقة الشرق الأوسط لأسباب سيرد ذكرها. في البدء سنتطرق لتعريف مفهوم “الأمن” الذي أصبح يتعدى في يومنا هذا المفهوم الكلاسيكي التقليدي له بشقه العسكري. فمفهوم الأمن أصبح أكثر تعقيداً وأوسع شمولاً في عالم طال فيه الأمن نواح عدة لعل من أهمها الأمن البيئي، والأمن الصحي، والأمن الغذائي والأمن المائي وغيرها. وقد انعكس اتساع مفهوم الأمن هذا في كثير من قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي ما انفكت تواكب هذه التغيرات بإصدار قرارات تحاكي اتساع هذا المفهوم نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر قرار الجمعية العامة المتعلقة بالصحة والسياسة الخارجية، والذي هو أقرب ما يكون لواقعنا الحالي الذي يواجه به العالم مجتمعاً جائحة كوفيد 19 والتي بدأت في داخل حدود دولة واحدة وطالت  كل أصقاع المعمورة بلا استثناء يذكر.
ومن هنا يمكننا القول بأن العالم يقف اليوم في مواجهة مجموعة من التحديات الجماعية منبعاً وتأثيراً، حيث تشترك بها كل الدول بغض النظر عن موقعها الجغرافي أو وضعها الديمغرافي، بغض النظر عن تقدمها او تخلفها تكنلوجينا واقتصاديا وتنمويا وغيرها من المتغيرات التي تميز كل من هذه الدول بعضها عن بعض. وفي معرض قضية مقالنا هذا تعد المياه من القضايا المفصلية الهامة التي يقف العالم أمامها بمواجهة تحديات يفرضها تغير المناخ الذي اصبحت تأثيراته واقعاً ملموساً لا لبس فيه. فالتغيرات المناخية طالت الكثير من مكونات البيئة اللازمة للحفاظ على توازن بيئي يضمن استمرارية الحياة البشرية دون كوارث بيئية، ولعل المياه وما يتعلق بها من أهم وأكثر المواضيع تأثيرا على البشرية في وقتنا الحاضر. ويرى البنك الدولي في أزمة المياة العالمية هذه تحديا رئيسياً في وجه أي تنمية مستدامة يتطلع العالم لتحقيقها. يرجع المختصون في هذا المجال بروز هذه الاحصائيات المنذرة الى عوامل عدة لعل أهمها. حيث يعد التغير في المناخ من اهم التحديات التي تواجه البشرية في ما يخص المياة كمصدر للتنمية والاستمرارية البشرية فهي بلا شك مصدر حياة البشر ومنبع استمراريتهم. لكن فوفقاً للإحصائيات فإن 9 من بين كل 10 كوارث بيئية تتعلق بالمياه وهذا بحد ذاته رقم ينذر بأن البشرية تقف اليوم أمام تهديد خطر يكمن في أن أهم عناصر استمرارها قد يكون هو أهم أسباب فنائها واندثارها، أن لم يتم التعامل مع هذا المصدر الحيوي الهام بجدية أكثر وبتضافر جهود دولية لا تعرف حدود الجغرافيا ولا التاريخ ولا الاقتصاد ولا أي من التغيرات التي من شأنها أن تفرق الجهود البشرية. فما يحصل اليوم في القطب الشمالي يصيب بما لا شك فيه البدو القابعين في خيام الصحراء في أي مكان على وجه الأرض. وهنا لابد من أخذ نظرة فاحصة على الأرقام الصادرة عن البنك الدولي عام 2019 والتي تفيد بأن عدد 2.2 مليار شخص في جميع أنحاء العالم ليس لديهم خدمات مياه الشرب، ولا يتوفر لنحو 4.2 مليار شخص خدمات الصرف الصحي، ويفتقر 3 مليارات شخص حول العالم إلى مرافق غسل اليدين. وفي وقت كتابة هذا المقال تواجه ألمانيا فيضانات أطلقت عليها الصحافة الألمانية “فيضانات الموت” والتي عزاها المسؤولون الألمان لارتفاع معدلات هطول الأمطار بشكل أدى لارتفاع منسوب مياة الأنهار وفيضانها على خلفية التغير المناخي العالمي. وهنا لا بد من الاشارة إلى أن حديث المختصين عن أزمات المياه المتصلة بتغير المناخ لا يقتصر على المياه كمصدر منعزل عن أي مصدر حيوي أخر وإنما هي أساس توازن أو اختلال المنظومة الغذائية ومنظومة الطاقة والبنية الحضرية والبيئية كما اصطلح عليها البنك الدولي. هذا وقد خرجت توصيات تحث الدول جميعا ولاسيما الصناعية المتقدمة منها على خفض انبعاثات الغازت الدفيئة المتصلة بشكل مباشر بالانحباس الحراري والذي يعد احد اهم تبعات التغير المناخي في العقود الأخيرة. بالإضافة إلى تشجيع الاستثمار في مشروعات تحافظ على التوازن البيئي وتعمل على تطويع الموارد البشرية بشكل لا يهدرها ولا يؤثر في استمراية الاستفادة منها. ولعل ما نراه في توجه الكثير من الشركات عابرة القارات لإعادة التدوير في كثير من منتجاتها وتقليص استخدام المواد الغير قابلة للتدوير هو جهد طيب لكنه للأسف ليس كافياً لمجاراة التغيرات المناخية المضطردة في عالم محموم بالتنافس صناعياً واقتصادياً وعسكرياً بلا أدنى اكتراث للتوازن البيئي المترتب على هذه الأنشطة المحمومة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن مصادر المياه على الكرة الأرضية تلوث بفعل المخلفات الصناعية وعدم الحفاظ على المياه الجوفية وتلويثها مما يهدر الكثير من كميات المياه المحدودة أصلاً في كثير من بقاع العالم لا سيما في الدول معرض هذا المقال أي دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.
تؤكد إحصائيات البنك الدولي المتعلقة بالمياه حول العالم على ندرة المياة التي تؤثر على أكثر من 40 % من سكان العالم وتشكل 70% من الوفيات المرتبطة بالكوارث الطبيعية. هذه الأرقام تبدوا أكثر خطورة حين نتحدث عن دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، حيث أن هذه المنطقة من العالم تواجه تحديات جمة أهمها التحدي البيئي والفقر المائي لأسباب عديدة ترتكز أساسا على موقعها الجغرافي الذي يجعل البيئة الصحراوية هي الأوسع امتداداً في الوطن العربي، وما يصاحب هذه البيئة من جفاف وندرة في الأمطار حيث تقل نسبة معدل هطول الامطار عن 200 ملم سنويا. وهنا لا بد من التطرق لفهم مصادر المياه في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ولا سيما في دول العالم العربي من حيث المصادر الطبيعية أولاً وهي مياه الأمطار التي بالإمكان وصفها بالمحدودة نسبيا. ثم ثانياً الأنهار والمياه الجوفية ومنابع هذه الأنهار حيث تكمن هنا إحدى أهم تحديات المياه في العالم العربي. يوجد في العالم العربي العديد من الأنهار أبرزها نهر النيل، الفرات، دجلة، جوبا، شبيلي الملوية والمجردة وغيرها، إلا أن أهم هذه الأنهار ينبع من خارج أراضي الدول العربية كدجلة والفرات التي تنبع من تركيا، ونهر النيل الذي ينبع من إثيوبيا وأوغندا.
وبالانتقال لمصدر المياه الجوفية تعد مناطق مثل الربع الخالي والنوبة والصحراء الجزائرية وهي الخزانات الموجودة بشكل اساسي في المناطق الصحراوية. وتتميز هذه المياه بأنها مصادر غير متجددة في  حال تم استخدامها. وذلك بسبب عدم إمكانية إعادة تخزينها بفعل الدورة المائية الطبيعية. ويرجع التحدي الرئيسي في استخدام المياه الجوفية إلى ارتفاغ تكاليف الرفع والضخ من أعماق الأبار الجوفية، وهو ما قد يجعل عملية شرائها أكثر جدوى من استخراجها.
ومن السليم القول بأن الدول العربية قاطبة تعاني كغيرها من الكثير من دول العالم فقراً مائياً يتفاقم مع مرور الوقت ويزداد عمق تأثيره السلبي على قاطني هذه الدول وأي مستقبل للتنمية وحتى للعيش الكريم في بلادهم واستخدام ثرواتهم الطبيعية أفضل استخدام في ظل تهديد غياب مصدر الحياة الأساسي وهو المياه الذي جعل الله به كل شيء حي. لكن على تشابه الدول العربية في هذا التحدي، إلا أن بعضها يقف على حافة الهاوية وأقرب لغيره من الوصول لمرحلة اللاعودة فيما يتعلق بمقدراته من المياه، ونذكر هنا على وجه الخصوص الدول التالية لأسباب خاصة بكل منها: مصر والعراق والأردن وسوريا. وفي مجمل ما يميز ازمات المياه في هذه الدول الأربعة يفصل في التالي:
مصر:
لم يعد خافياً على أحد الوضع الراهن الذي تعمل مصر على تصحيحه بالعمل مع شقيقتها السودان فيما يتعلق بتبعات الملئ الثاني لسد النهضة الإثيوبي الذي من شأن ملئه -إن لم يراعي مصالح دول المصب- المساس بحصص هذه الدول المائية وإحداث تبعات كارثية متعلقة بالجفاف أو الفيضانات وكلاهما تحديان لا تهاون فيهما لدول المصب وتهديدا لحياة الملايين في مصر والسودان. وهنا لا بد من الاشارة الى ان كلتا الدولتين عملتا ولا زالتا تعملان على الوصول لحل من شأنه المحافظة على حقوق البلدين التاريخية المستحقة لهما في مياه نهر النيل مراعين في ذلك بما لم يكن فيه شك منذ البدء حق إثيوبيا في بناء سد يعزز فرصها في التنمية والاستثمار دون ان يلحق ضررا بدولتي المصب، ولا زالت هذه القضية قيد البحث على اعلى مستوى في كافة المحافل الدولية بهدف الوصول إلى حل شامل وعادل وقاطع يلزم إثيوبيا قانونياً بمراعاة كل ما سبق ذكره.
 
العراق:
من غير الخافي ان الوضع المائي في العراق شديد التعقيد كغيره من الملفات العالقة في هذا البلد الكبير كثير الموارد المتنازع عليها داخليا وخارجيا. ولعل أهم ملامح هذا الملف هو تعقد جريان مياه دجلة والفرات اللاتي تعد شرياناً أساسياً لحياة العراقيين وأمنهم المائي. وتعد محاولة اطراف خارجية تشترك مع العراق في مياهها من السيطرة على منابع هذه الانهار لا يجعل القضية ايسر وانما يزيد المشهد تعقيدا في بلد طال الدمار فيها كل مناحي الحياة بلا استثناء.
الأردن:
يعد الأردن من أشد الدول فقراً مائياً حول العالم وأزمة المياه فيه ليست جديدة لكنها كانت وإلى يومنا هذا تتفاقم بفعل كون الأردن بلد محدود المصادر الطبيعية لكنه وعلى مدار عقود كان ملاذاً لكثير من لاجئي الجوار في أزمات رئيسية وقضايا عاشها الوطن العربي. ففيه يقطن ما يزيد عن ثلاثة ملايين فلسطيني بعد نكبة 1948 ونكسة 1967، وكذلك الكثير من العراقيين بعد الحرب على العراق، وصولاً إلى ملايين السوريين على خلفية الأزمة السورية. كل هؤلاء يضيفون أعباء على منظومة منهكة في الأصل وتعاني الكثير في مجالات مختلفة يعد الفقر المائي على رأس قائمة طويلة من التحديات.
ولعل الصورة قاتمة اكثر مما يمكن وصفه وهذا ادعى ان تتخذ الدول في شتى بقاع العالم تدابير تحفظ المناخ وتتوخى الحذر لعدم الإخلال بالتوازن البيئي مما له من أثر سلبي مباشر على مصدر المياه الذي بدونه تفنى البشرية مهما وصلت لتقدم تكنولوجي. فالحضارات القديمة التي هي أم الحضارات في بلاد الرافدين ومصر نشأت على ضفاف المياه وازدهرت. وهنا لا بد من الاشارة إلى أن تدابير هامة من الممكن تبنيها في الوطن العربي للحد من الهرولة نحو الهاوية فيما يختص بالفقر المائي وأهمها ترشيد استخدام المياه في الري و تحلية مياه البحر ومعالجة المياه العادمة، وهي وسائل غير تقليدية للحصول على المياه في العالم العربي. ولا بد من الإشارة إلى أن بعض الدول العربية وعلى رأسها المملكة العربية السعودية تتصدر ترتيب أهم عشرة دول تعمل على تحلية مياه البحر في العالم متفوقة عل الولايات المتحدة الأمريكية، وتتبعها الإمارات العربية المتحدة في المرتبة الثالثة عالميا.
في الختام لعلنا نقف اليوم على أبواب حقبة لم يشهد العالم مثيلا لها من الاضطرابات بشتى أشكالها التقليدي منها وغير التقليدي طالت البشرية كافة وكان قاسمها المشترك بأننا وإن اختلفت مواقعنا الجغرافية او موروثاتنا الثقافية والحضارية ومدى تقدمنا عسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً، فهناك الكثير من التحديات التي نتأثر بها جميعا لأننا بالمقام الأول نتشاطر هذا الكوكب الذي لانملك غيره مسكنا، فمهمة الحفاظ على مقدراته جماعية لا منفردة بلا أدنى شك.