أكتب هذا المقال الذي يعرض قصة الاتفاق السعودي الفلسطيني من “طقطق إلى السلام عليكم”، وأنا أتمنى أن المعلومات الواردة فيه، على الرغم من أنها تستند إلى مصادر عدة إعلامية وسياسية مطلعة، غير صحيحة أو تنقصها الدقة؛ لأنها إذا كانت صحيحة فهي تعني أن التطبيع السعودي قادم قادم، فهو بدأ ويمكن أن يصل إلى محطته الأخيرة سريعًا، أو بعد حين، وأن هناك أكثر من غطاء فلسطيني له، مع أنه لا يتضمن إنهاء الاحتلال ولا دولة فلسطينية.
منذ أشهر عديدة، بدأت مباحثات فلسطينية – سعودية شارك فيها الرئيس محمود عباس في الزيارة التي قام بها إلى السعودية في نيسان/ أبريل الماضي، وطلب فيها ولي العهد السعودي محمد بن سلمان من السلطة تقديم تصور للحفاظ على “حل الدولتين” و”الحفاظ على فرص السلام”، من خلال فتح أفق سياسي، إضافة إلى مباحثات أخرى شارك فيها وفد فلسطيني برئاسة حسين الشيخ، الذي التقى بالسفير السعودي، نايف السديري، في الأردن مرات عدة، قبل وبعد تعيينه سفيرًا لدى فلسطين وقنصلًا غير مقيم في القدس.
تم تتويج الأمر كله باللقاءات التي عقدها وفد فلسطيني زار السعودية في أوائل أيلول/ سبتمبر الماضي، على أن يجمل نقاط الاتفاق التي خلصت إليها المباحثات، وتم ذلك واتُّفق على اعتبار الورقة الفلسطينية مرجعية للطرفين.
توقعات عالية وخيبة أمل كبيرة
لقد بدأت القيادة الفلسطينية المباحثات مع القيادة السعودية بسقف عالٍ؛ حيث اعتقدت أن تطبيع بلد عربي بمكانة وأهمية السعودية لا بد من أن يوفر فرصة كبيرة بأن تتضمن الصفقة الجاري التباحث حولها مكونًا فلسطينيًا مهمًا، خصوصًا أن حاكم الرياض اختار أن يشارك الفلسطينيون بما ينوي عمله، وهو يريد تأييدهم؛ نظرًا إلى أهمية ذلك في تسويق الصفقة السعودية الأميركية التي تتم مناقشتها برعاية أميركية.
تأسيسًا على التوقعات العالية، طرح الجانب الفلسطيني ضرورة أن تكون مبادرة السلام العربية هي الأساس للتعامل مع القضية الفلسطينية. ولكن المفاجأة كانت في أن الجانب السعودي كان يبحث عن مصالحه، ويركز على مطالبه الخاصة بالمفاعل النووي المتقدم، ومعاهدة الدفاع المشترك، والأسلحة المتقدمة، ولا يضع القضية الفلسطينية ضمن أولوياته، بدليل أنه وافق على أن تكون المبادرة أساس العملية الجارية، ولكن بإجراء تعديل “بسيط” قلب الموقف رأسًا على عقب؛ إذ اعتبر أنه يجب ألا تكون المبادرة العربية نقطة البداية، بل الهدف النهائي الذي يجري العمل من أجل تحقيقه. وكما قال عبد الرحمن الراشد في مقاله الأخير “التفاوض السعودي الإسرائيلي” المنشور في صحيفة “الشرق الأوسط: “إن المسار السعودي قد لا يحقق دولة فلسطينية، كونه مثل كل الاتفاقات الثنائية سيقوم على المصالح الثنائية مثلما قامت”، ومثله قال محلل شهير مؤيد للموقف السعودي بأنه يمكن للمبادرة العربية أن تتحقق خلال 5 أو 10 أو 15 سنة.
استند السعوديون في موقفهم السابق إلى تقدير فلسطيني ذُكِرَ سابقًا في الورقة الفلسطينية المقدمة إليهم حول صعوبة التوصل إلى حل نهائي، خاصة في مواضيع الدولة والقدس واللاجئين، مشددًا على ضرورة استغلال الفرصة الحالية، من خلال تحسين الموارد والأحوال المعيشية؛ ذلك لأن الحكومة الإسرائيلية الحالية لا يمكن أن توافق على المبادرة العربية ولا حل الدولتين.
نعم، ليس واقعيًا البدء من هنا؛ ولكن هذا لا يمكن تبريره مع أنه إن حدث سينسف المباحثات من أول لقاء بسبب رفض الحكومة الإسرائيلية، فهل هذا السقف هو ما تقبل به الحكومة الكهانية. كما أن القيادة الرسمية موقفها ضعيف جدًا؛ لأنها تتعامل مع الحكومات الإسرائيلية الأخيرة ضمن سقف منخفض، وهو السلام الاقتصادي، من دون بعد سياسي، لدرجة أن مسؤولا فيها قال إن السلطة مستعدة لوقف خطواتها الأحادية (والمقصود بها التدويل واللجوء إلى المحاكم الدولية وتبني المقاومة السلمية) إذا أوقفت إسرائيل خطواتها الأحادية!!
تسوية انتقالية – أوسلو 2
لذا، كان المخرج البائس، وفق المصادر المطلعة، الذي اتفق عليه الجانبان الفلسطيني والسعودي هو الاتفاق على تقديم “مطالب واقعية مقبولة” قابلة للتحقيق، والمطالبة بالتوصل إلى تسوية انتقالية جديدة لمدة ثلاث سنوات (أوسلو 2)، يتم خلالها خلق الأجواء الإيجابية الضرورية لتطبيق المبادرة العربية، والتركيز على تطبيق 14 التزامًا إسرائيليًا في اتفاق أوسلو لم تنفذ (مثل النبضة الثالثة: وقف الاستيطان، وعدم بناء بؤر استيطانية جديدة، وعدم شرعنة البؤر القائمة، ونقاط عديدة في بروتوكول باريس الاقتصادي لم تطبق، واحترام هيبة السلطة، خصوصًا بعدم اقتحام المدن المصنفة أ، المفترض أنها تحت سيطرتها بالكامل، وإطلاق سراح الأسرى المعتقلين ما قبل أوسلو… إلخ).
واللافت أن الجانب السعودي طالب السلطة أيضًا وفق المصادر بتقديم تنازلات جديدة، من خلال تقديم اقتراحات محددة توضح ما المقصود بوقف الاستيطان، وما يمكن تحويله من مناطق (ج) إلى مناطق (أ)، ورأى أن الآلية المناسبة لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه بين الرياض ورام الله هو البناء على اتفاقات شرم الشيخ والعقبة للاتفاق على ترتيبات أمنية وعلى المرحلة الانتقالية الجديدة بوجود جهات دولية ضامنة، وهذا يتطلب عقد اجتماعات جديدة. إنّ خفض السقف منذ البداية يدفع حكومة نتنياهو إلى المزيد من التطرف.
مباحثات أميركية فلسطينية فاشلة
حتى تكتمل الصورة، جرت إلى جانب المباحثات السعودية الفلسطينية، مباحثات أميركية فلسطينية في رام الله وعمّان، والسعودية نفسها شارك فيها (معلومة بحاجة إلى تأكيد) الوفد الفلسطيني وباربارا ليف مساعدة وزير الخارجية في لقاءات عمّان والقاهرة، وبريت ماكغورك كبير مستشاري الرئيس جو بايدن في السعودية؛ إذ جاء في الموقف الأميركي ضرورة تقديم مطالب فلسطينية “واقعية” للسعوديين والأميركيين حتى تساهم في التوصل إلى اتفاق سعودي إسرائيلي.
فعلى سبيل المثال، كانت هناك طلبات فلسطينية بضرورة عدم استخدام الفيتو في مجلس الأمن يمنع حصول الدولة على العضوية الكاملة، وفتح مكتب منظمة التحرير في واشنطن، وإزالتها من قائمة الإرهاب، وفتح القنصلية الأميركية في القدس، بما يعني البدء الأميركي بالاعتراف بالدولة الفلسطينية، وتقديم المساعدات مباشرة إلى السلطة، والضغط على إسرائيل لإيقاف العقوبات المالية على السلطة، وغيرها.
كان الرد الأميركي على تلك الطلبات سلبيًا تمامًا، فالاعتراف بالدولة، وفق الأميركيين، خطوة لا بد أن يُتفق عليها بالتفاوض، وهي ليست نقطة بداية، وإنما نقطة نهاية. أما مسألة المساعدات وفتح مكتب المنظمة وإزالتها من قائمة الإرهاب فتحتاج إلى تغيير قوانين أميركية، وهذا يستغرق وقتًا. وحينما التزمت إدارة بايدن بحثّ الدول المانحة على الاستمرار في دعم السلطة الفلسطينية، واستئناف الدعم من تلك الدول التي أوقفته مثل السعودية؛ كان الرد السعودي بأننا لسنا جمعية خيرية، ولن نقدم مساعدات على بياض، وأي مساعدات ستأتي وستكون ضخمة، ولكن في سياق عملية سياسية تبدأ بعد التطبيع.
ولعل الأخبار عن دعم سعودي للسلطة بمبلغ 170 مليون دولار (أقل من المبلغ الذي مُنح للاعب رونالدو)، منها 70 مليون للأمن و100 مليون لميزانية السلطة، أول الغيث، ومكافأة للموقف الإيجابي للسلطة من الجهود المبذولة للتطبيع السعودي. والمطلوب منها ألا تكتفي بعدم الرفض، بل التأييد وحتى المشاركة.
أما النقاط الأخرى فستأتي لاحقًا أو تُطبق، فمثلًا المكتب الفلسطيني الموجود حاليًا في السفارة الأميركية منفصل عنها ويقدم تقاريره إلى الخارجية الأميركية مباشرة.
الخلاصة: أوضح حاكم الرياض موقفة في مقابلته مع فضائية “فوكس نيوز”، بأن القضية الفلسطينية مهمة ولكنه حصر الأمر في الحديث عن تحسين أحوال الفلسطينيين، ولم يذكر مبادرة السلام ولا الدولة الفلسطينية ولا أي شيء آخر، وعندما يذكر كل من وزير الخارجية السعودي والسفير السديري المبادرة والدولة فيكون ذلك ضمن الفهم الذي عرضناه آنفًا.
الرياض وافقت على صفقة ترامب
إذا عدنا بالذاكرة إلى الوراء سنوات قليلة، نتذكر أن الرياض وافقت على صفقة ترامب وغضبت من الرئيس الفلسطيني لأنه عارضها، وأوقفت المساعدات التي تقدمها إلى السلطة وهي صفقة على سوئها الشديد لم تقرها الحكومة الإسرائيلية، وهي أقل سوءًا مما هو مطروح الآن، فهي فيها دولة فلسطينية وحدود ولو شكلًا، بينما المطروح محاولة إحياء أوسلو عبر تسوية انتقالية، وتجاهل أن التسوية الانتقالية القديمة استمرت حتى الآن أكثر من ثلاثين عامًا وكانت المعطيات والظروف أفضل مما هي عليه الآن ولم تؤد إلى الدولة، بل إن إمكانية تحقيقها باتت أبعد وأصعب إن لم تكن انتهت.
كما أن الاتفاقات الإبراهيمية لا يمكن أن تُوقّع من دون ضوء أخضر سعودي، وما يجري من تطبيع تدريجي سعودي يدل بصورة واضحة إلى أين تسير الأمور، مثل: فتح المجال الجوي، واللقاءات السرية، والتعاون العسكري والأمني، وزيارة وزيري السياحة والاتصالات.
كما أن موافقة السعودية على الممر الاقتصادي لا تقل أهمية عن التطبيع، وهو يدل على انحياز سعودي لمشروع يمكن أن يؤثر سلبيًا في مشروع “الحزام والطريق” الصيني، وفي مصر ولبنان وسورية وتركيا وإيران وروسيا.
لا يعني ما سبق أن الطريق للتطبيع سالكة، بل إن المطالب السعودية، خصوصًا في ما يتعلق بتخصيب اليورانيوم دورة كاملة له صيغ عدة محل نقاش، لضمان عدم إنتاج قنبلة نووية سعودية، وكذلك هناك صيغ عدة لمعاهدة الدفاع ما بين صيغة حلف الناتو إلى معاهدة البحرين، وما بينهما من معاهدتي كوريا واليابان، وأحد المخارج المطروحة التي أشار إليها نتنياهو هي أن يتم التطبيع السعودي بصورة متدرجة؛ إذ يتم الاتفاق أولًا على اتفاق إطار (إعلان مبادئ) حتى تنضج الأوضاع الأميركية والسعودية والإسرائيلية لإبرام معاهدة سلام وتبادل السفراء، وهذا ما يؤكده تصريح جون كيربي، المتحدث باسم مجلس الأمن القومي الأميركي، بأن المباحثات الرامية إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية توصلت إلى إطار سياسي لاتفاق مستقبلي؛ إذ وضع الطرفان هيكلية أساسية لما يمكن السير باتجاهه، ويتعين على الجميع تقديم تنازلات؛ لأن الاتفاق معقّد، وهذا ما أشارت إليه وكالة “رويترز”، التي بيّنت التقدم في المباحثات، وأكدت أن المباحثات باتت مرهونة بالاتفاق الدفاعي.
نفاق الكثير من الكتاب والمحللين
أعرف أن انتقاد السعودية ليس أمرًا هينًا وله ثمن، لذلك نرى بعض المعلقين الذين كانوا مشهورين بانتقاداتهم اللاذعة لسياسة الرياض يتحلون حاليًا بالموضوعية، ويتحدثون عن احتمالين في تفسير الموقف السعودي: الأول أن مرونة السعودية ما هي إلا مناورة، ولا يمكن لها أن تُقدِم على صفقة تضعف إمكانية قيامها بدور قيادي في المنطقة والعالم، والآخر أن السعودية حسمت أمرها، والبحث جار حول الثمن والتوقيت والتفاصيل، وأن ما قامت به من لعب على المعسكرين الشرقي والغربي ما هو سوى تكتيك لتحقيق أفضل صفقة ممكنة تكرس الاصطفاف التاريخي.
إن الهبوط بالموقف الفلسطيني والسعودي حصل، وحث الرياض الفلسطينيين على انتهاز فرصة ولاية بايدن له مغزى كبير، سواء إذا تمت الصفقة أو لم تتم، وما قدم في المباحثات سيكون نقطة البدء بأي مباحثات قادمة.
أنهي ما بدأت به وأتمنى ألا تُقدم السعودية على التطبيع على حساب دورها المنتظر وعلى حساب القضية الفلسطينية بادعاء أن الدولة الفلسطينية ستأتي لاحقًا؛ أي لا تعقد الصفقة بهذا الثمن البخس وخصوصًا أن إسرائيل في أضعف حالاتها ونتنياهو تحديدًا في أضعف لحظات حياته وأميركا لم تعد سيد الأرض المنفرد، فحتى الحديث عن وقف إصدار قرارات جديدة لتوسيع الاستيطان، حتى لو وافق عليه نتنياهو، لا معنى له. فقد صادقت حكومته على بناء 50 ألف وحدة استيطانية في القدس والضفة، وليست بحاجة إلى إصدار قرارات استيطانية جديدة، وكذلك لا معنى لطلب تحويل جزء من مناطق (ج) إلى (أ) أو من (ب) إلى (أ)؛ لأنه لم يعد هناك فرق بين هذه المناطق المستباحة من قوات الاحتلال منذ عملية السور الواقي وحتى الآن.
من يريد مبادرة السلام على الرغم مما تنطوي عليه من اعتراف بالكيان الاستعماري الاستيطاني على 88% من فلسطين وحل الدولتين، عليه أن يوحد ويقوي الموقف الفلسطيني، من خلال إعطاء الأولوية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، واعتماد برنامج واقعيّ، ولكن لا يستسلم للواقع بل يسعى إلى تغييره، وإقامة حكم رشيد يكافح الفساد ويعتمد الانتخابات على كل المستويات بشكل دوري ومنتظم، ويجمع أوراق القوة والضغط الفلسطينية والعربية والدولية، ويوظفها لخلق حقائق جديدة على الأرض وتغيير موازين القوى؛ حيث تفرض الحقوق الفلسطينية نفسها على دولة الاحتلال سواء عبر المفاوضات أو من دونها.
المستغرب كتابات كتاب ومثقفين وصحفيين يكيلون كل الانتقادات للقيادة الفلسطينية، ويمدحون أو يتجنبون أي انتقاد للموقف السعودي، ولسان حال بعضهم يبرر ذلك بأن كل الحق على القيادة الفلسطينية وهي تتحمل المسؤولية فعلًا، ولكنها لم تكن لتصل إلى ما وصلت إليه لولا أن النظام العربي منهار وتابع ودوله استبدادية يدفعها دفعًا إلى هذا الطريق حتى يلومها ويتنصل من مسؤولياته ولما يمكن أن توصل إليه.
قيادة فلسطينية جديدة تتخلى عن الحل السياسي
الآن، بات المطلوب قيادة فلسطينية جديدة أو تطويع القيادة الحالية أكثر وأكثر حتى لا تطرح الحل السياسي ولا تنبس ببنت شفة عن الحقوق الوطنية، بل تتناول فقط القضايا الإنسانية والمعيشية مثل تصاريح العمل ولم الشمل ومشاريع اقتصادية… إلخ. وهذا نفسه طرحه نتنياهو وأسماه “السلام الاقتصادي” ويسميه إسرائيليون آخرون “سلامًا مقابل سلام”، وهذا هو الحل الإسرائيلي الذي لا يقود إلى دولة واحدة ديمقراطية، ولا إلى تحقيق الحقوق المدنية، بل إلى دفن الخيار الفلسطيني، والتمهيد إلى الخطوة اللاحقة، وهي تهجير المزيد من الفلسطينيين إلى الأردن وسيناء وبلدان لجوء جديدة.