الانسحاب الأميركي من أفغانستان: ملاحظات أولية..سنية الحسيني

لم يكن الانسحاب الأميركي من أفغانستان مستغرباً، فالاحتلال عموماً إلى زوال، وطالما أنهت الولايات المتحدة احتلالها لدول الغير بانسحاب مذل كذلك الذي شهدناه قبل أيام في كابول، فخروجها في الماضي من فيتنام والصومال والصور التي التقطت لتلك اللحظات بقيت مطبوعة في الأذهان. تدعي الولايات المتحدة أنها انسحبت من أفغانستان لأنه لم يعد لها مصلحة في البقاء. والحقيقة أن انسحابها في هذا الوقت بالذات، والذي جاء بعد انقضاء عقدين كاملين من الاحتلال، يبدو محيراً.
فإذا جاء انسحابها اليوم بحجة أنها حققت الهدف من غزو أفغانستان عام ٢٠٠١، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، فهذا غير صحيح، إذ نجحت الولايات المتحدة بهزيمة تنظيم القاعدة المسؤول عن الاعتداءات وأسقطت حكم حركة طالبان في أفغانستان بعد فترة قصيرة واحتلت البلاد. والحقيقة أن الولايات المتحدة تخرج اليوم من أفغانستان بعد أن تركت الساحة خالية للحركة، ومع وجود جدل كبير في مراكز الدراسات الأميركية حول مستقبل «القاعدة» في ظل الوضع الجديد. واذا جاء انسحابها انطلاقاً من نجاحها في ترسيخ نظام أفغاني صديق وحليف للولايات المتحدة، استغرقت من أجل تشييده عقدين كاملين، وأنفقت لإعداده تريليون دولار، فعلى الولايات المتحدة أن تعترف بهزيمتها، لأن توقعاتها بصموده لأشهر بعد انسحابها أيضاً جاءت مخيبة تماماً كما جاء تخطيطها لبنائه وترسيخه.
كما أنه من الصعب اعتبار خروج الولايات المتحدة من أفغانستان حنكة سياسية، على أساس أن منطقة الشرق الأوسط لم تعد في صلب اهتماماتها، وأنها تضع كل ثقلها السياسي اليوم بمحاصرة وتقويض الصين. إن الدور الذي تلعبه أفغانستان لا يبتعد كثيراً عن الملعب الصيني، فالصين تسعى لأن تكون أفغانستان ضمن مخطط طريق الحرير، كما أن حركة طالبان مدعومة بشكل أساس من حكومة باكستان الحليفة المقربة من الصين. وقد يشير التواصل بين حكومة الصين وحركة طالبان إلى تطورات محتملة قريبة في العلاقة بين البلدين. وتبقى أفغانستان بموقعها الجغرافي وتركيبتها السكانية دولة مهمة لإيران، العدو المعلن للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط، وورقة مهمة ممكن أن تستخدم ضد الولايات المتحدة، ولكن بعد أن خسرت الولايات المتحدة أفغانستان، باتت علاقة حركة طالبان مع صانع القرار الإيراني محمل تخمين وتحليل لمستقبل غير مضمون.  
ويبقى السؤال المحير، لماذا انسحبت الولايات المتحدة الآن وبهذه الطريقة وهي لم تحقق أياً من أهدافها؟ يبدو أنها أقرت بهزيمتها، بعد فشلها في تحقيق أهدافها، فأرادت أن تغرق البلاد في حالة من الفوضى وربما حرب أهلية، تعطل مصالح الصين في أفغانستان ومستقبل أي تعاون اقتصادي مستقبلي ممكن، وتشكل خطراً إضافياً على أمن إيران والتي يمكن أن تتورط بشكل أو بآخر في هذه الحرب. كان قد جاء في تقرير للمخابرات الأميركية أن الجيش الأفغاني يمكنه أن يصمد أمام مقاتلي طالبان لأشهر، أي أن الولايات المتحدة كانت تضع في اعتبارها احتمالاً لاشتعال فتيل الحرب الأهلية.
كما يبدو أن الولايات المتحدة عجلت في عمليات انسحابها من أفغانستان، في ظل التقدم السريع والمحسوب لحركة طالبان، بهدف التراجع عن وعودها لاتباعها والمحسوبين عليها من الأفغان، والذين وعدتهم بالحماية، ويقدر عددهم بالآلاف، فركزت على إخلاء الأميركيين من كابول، وتركت الآلاف الذي وثقوا بها ليلقوا مصيرهم المحتوم. هذه الصور واللقطات لآلاف الأفغان الذي تبعوا القوات الأميركية إلى مطار كابول طلباً للحماية الأميركية، لا تخرج عن هذا التفسير المرتبط بالوعود الأميركية لهم.
هناك عدد من الملاحظات الهامة:
– يأتي استثمار الولايات المتحدة في أنظمة حكم إما بتركيبها أو بدعمها بهدف تحقيق مصالحها وليس بهدف ادعائها بتحقيق الديمقراطية. وأكدت كونداليزا رايس عام ٢٠١٧ على أن هدف الولايات المتحدة من غزو العراق وأفغانستان لم يكن تحقيق الديمقراطية، بل تحقيق مصالحها الخالصة. وهذا يفسر سياسة الكيل بمكيالين فيما يتعلق بتطبيق القيم الديمقراطية ومبادئ حقوق الانسان، ففي حين تتغاضى أميركا عن تطبيق تلك القيم والمبادئ من قبل حلفائها، تستخدمها ذريعة لانتقاد الأنظمة التي تتعارض معها وتتحدى سياساتها.
– أثبتت التجارب تخلي الولايات المتحدة عن حلفائها بسهولة سواء كانوا أنظمة أو حكومات أو جماعات مسلحة، بعد تحقيق مصالحها أو فتور اهتمامها او هزيمتها/ كما تبرز ذلك صور آلاف الأفغان الذين تركتهم القوات الأميركية حول سفارتها وحول طائرات النقل العسكرية في المطار لمصيرهم الغامض هذه الحقيقة. لم تتخل الولايات المتحدة عن اتباعها في أفغانستان فقط، فقد فعلت ذلك في العراق أيضاً بعد انسحاب قواتها عام ٢٠٠٩، وتركت الكثيرين يواجهون خطر التصفية والاغتيال، وحتى من استطاع الخروج سالماً من العراق لم تتبنه حكومة الولايات المتحدة وتضمن له حياة كريمة.
– إن تخلي الولايات المتحدة عن حلفائها لا يتعلق فقط بالأفراد وإنما أيضاً بالأحزاب والجماعات المسلحة والأنظمة والحكام، كما كان ذلك واضحاً في أفغانستان والعراق ودول أخرى، ما أثار الشكوك لدى الكثيرين في مصداقية الولايات المتحدة، وجدوى التعويل عليها من قبل حلفائها في الأوقات الصعبة. فقد صرحت قيادات في إسرائيل، بعد سقوط كابول، بأن على إسرائيل أن تعتمد على نفسها وليس على أي جهة أخرى، في إشارة إلى الولايات المتحدة. لقد سجلت إدارة الرئيس بايدن لنفسها فشلاً ذريعاً في الطريقة المذلة التي انسحبت بها القوات الأميركية من أفغانستان، فقد كان بمقدور هذه الإدارة القيام بانسحاب يحفظ لها ماء الوجه، وستبقى صور سقوط كابول السريع في أيدي حركة طالبان، وصور الفوضى التي عمت المطار أيضاً حاضرة في الأذهان لعقود طويلة قادمة، كما كانت الحال في سقوط سايغون في أيدي الفيتكونج وطائرات الهليكوبتر الأميركية التي نقلت رعاياها وبعض المتعاونين معها من فوق أسطح المباني، في مشهد مشابه لما شاهدناه في مطار كابول.