نتابع الحملة العسكرية الروسية في اوكرانيا وتداعياتها المختلفة على الاوضاع الجيوسياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يشهدها االعالم بسبب ذلك. وما جلب انتباهي كثيرا هو ملف العقوبات الاقتصادية من جانب الدول الغربية على روسيا التي مست قطاعات متنوعة ومتعددة مالية وتجارية واخرى شخصية تمس رجال الاعمال الروس او ما اصطلح على تسميته ب ” الالويغارشية الروسية”
ولعل ابرز الملفات التي اثارت انشغال العالم بأسره هي ملف الطاقة من نفط و غاز ومحاولات ادارة الرئيس الامريكي جو بايدن مقاطعة هذه الامدادات الروسية ومنع اقتناء الغاز والنفط الروسي. الاوروبيون المعنيون بشكل مباشر بهذه المسألة معظمهم اعرب عن تحفاظاته ازاء هذا القرار الذي سيؤدي لا محالة الى الحاق اضرار اقتصادية واجتماعية وبيئية كبيرة على القارة العجوز وشعوبها خاصة وان نسبة احتياجات الاوروبيين من الطاقة الروسية تفوق نسبة اربعين في المئة 40% .
المفارقة الغربية ان الولايات المتحدة الامريكية والدول الاوربية الفاعلة في القرار السياسي مثل بريطانيا والمانيا وفرنسا وايطاليا كانت في العقود الماضية تعطي الانطباع بأنها لا تعير اهتماما كبيرا للبترول والغاز !؟ وتقول ان هذه السلعة لم تعد تكتسي اهمية كبيرة في اقتصادياتها وتنميتها , وتمكنت بشكل او بآخر من اقناع الدول العربية المنتجة للنقط والغاز بأن هذه المواد لم تعد كما كانت تصنف في السابق بالسلع الاستراتيجية التي يصعب الاستغناء عنها.
العرب استخدموا سلاح النفط في حرب اكتوبر 1973 و اثبت ا ذلك القرار فعاليته والذي اتخذه العاهل السعودي الراحل الملك فيصل بن عبد العزيز بالتنسيق مع دول عربية نفطية أخرى بوقف امدادات البترول للدول التي وقفت الى جانب اسرائيل وغضت الطرف عن الحق الفلسطيني المشروع في اقامة دولته على ارضه فلسطين وعاصمتها القدس الشريف. حينها كان لذلك القرار العربي الجريء ردود افعال مفاجئة فسارعت الدول الغربية بما فيها الولايات المتحدة الامريكية الى ابداء اهتمام بالمطالب العربية و الاعتراف بحقوق الشعب الفلسطيني على الاقل من حيث المبدأ وظهر ذلك جليا في تصريحات العديد من المسؤولين الغربيين وتغيرت نظرتهم لطبيعة الصراع العربي الاسرائيلي بشكل عام والفلسطيني الاسرائيلي بوجه خاص.
سلاح البترول وضع ملف الطاقة بالنسبة للغربيين على رأس الاولويات وبادروا في تمويل الابحاث والدراسات لايجاد بدائل للبترول والغاز بحجة حماية البيئة والمحيط وحماية منطقة الاوزون من الانبعثات الحرارية, كما قلصوا الاعتماد على الفحم الذي كان ولايزال متوفرا بكميات كبيرة في دول اوروبية عديدة منها المملكة المتحدة والمانيا وبولندا وغيرها. لكن الاعتماد على النفط والغاز لم يتقلص ابدا بل ظلا المصدر الاول في عمليات التصنيع الحربي والمدني وفي تطوير وتنمية قطاعات الزراعة والانتاج الزراعي وشتقاته. تحريك المصانع وحرث المزارع وانتاج البضائع ودخول عالم التكنولوجيا الحديثة لم يكن ليتحقق لولا امدادات النفط والغاز من مصادر عديدة بما فيها الدول العربية المنتجة لهذين المادتين الاساسيتين.
في المقابل عمدت الدول الغربية على راسها الولايات المتحدة الامريكية الى اعطاء الانطباع بان استخدام سلاح النفط من قبل الدول العربية في اي مواجهة مستقبلية لم يعد يجدي نفعا ولم يعد البترول سلاحا استرتيجيا يمكن للعرب ان يعولوا عليه ويستخدومنه كما حدث في السبعينيات. تدريجيا قبلت الحكومات العربية للاسف الشديد بهذه الكذبة والخدعة الغربية واقتعت ان ما توفر لديها من كميات معتبرة من الغاز والبترول لا يعني اي شيء وتحولا الى مجرد سلعة تباع وتتداول في اسواق ا”لبورسات الغربية ” وتخضع لمؤشرات السوق وتقلباتها بين الارتفاع تارة والانخفاض تارة اخرى مثلها مثل بقية المواد الاستهلاكية الاخرى التي لا تكتسي أي اهمية.
في أكثر من مناسبة نشبت نزاعات بين الفلسطينين والاسرائيليين وبين دول عربية واسرائيل وكانت الفرصة مواتية لاستخدام العرب لسلاح النفط من جديد امام الغطرسة الاسرائيلينة وحلفائها الغربيين , لكن الحكومات العربية قبلت بالامر الواقع ولم تحرك ساكنا في هذا الشأن الى حين.
جاءت الحرب في اوكرانيا لتكشف النقاب عن الحقيقة في ملف الطاقة واهمية النفط والغاز والحاجات الغربية الماسة لهذه المورد الاساسي لهم في تدفئة منازلهم وفي اضاءة وانارة بيوتهم وشوارع مدنهم وفي تحريك قطاراتهم وسياراتهم ومصانعهم وفي معالجة مرضاهم وفي انتاج كل ما يستهلكونه من مواد غذائية وزراعية. اتضح جليا ان البترول كان ولايزال بمثابة شريان الحياة لكل الدول الغربية بما فيها الولايات المتحدة التي تعد اكبر منتج واكبر مصدر للنفط في الوقت ذاته.
كذب الغرب على العرب وصدفق العرب الكذبة لسنوات طويلة خلت , وخسروا ورقة كانت جد رابحة في صراعاتهم مع الغرب الداعم لأسرائيل… فهل آن الاوان لمراجعة هذه الكذبة واعادة النظر في اهمية الطاقة العربية في التحولات الدولية الراهنة والمستقبلية لان الاعتماد على البترول والغاز العربي وغير العربي بالنسبة للغرب تحول الى مسألة حياة او موت.
ليس عيبا ان يدرك العرب اخطاء الماضي القريب ويعيدون النظر في ما يملكونه بيدهم من سلاح رادع لا هو بيولوجي ولا كيميائي ولا هو نووي , بل سلاح مشروع وفره الله من نعمه لهم لكي يستفيدوا ويفيدوا به . انها معركة المصالح وترتيب الاولويات و اعادة تقييم حالنا كعرب ومسلمين في عالم اثبتت التجارب السابقة والحالية اننا نتعامل مع دول وحكومات وشعوب غربية انانية لا تهمها الا مصالحها وليذهب الجميع الى الجحيم.
الحملة الروسية في اوكرانيا كشفت النقاب بوضوح عن اللعبة الغربية الخطيرة التي كانت تديرها واشنطن في تطوير اسلحة فتاكة تعرف باسلحة الدمار الشامل في اطار مؤامرة تحاك ضد موسكو بغية القضاء على مقومات اكبر دولة في العالم. واذا كانت هذه هي النوايا الحقيقية للغرب ضد دولة اوروبية اسمها روسيا فما بال العرب وما يحاك ضدهم وهم في هذا الوضع المأساوي بعدما فقدوا كل اوراق اللعبة التي كانت بحوزتهم على الاقل في السبعينات؟!
ورقة الطاقة وملف النفط والغاز لا يزال سلاحا معتبرا يمكن الاستفادة منه في تطوير البلدان العربية اذا بيع بسعره الحقيقي في الاسواق العالمية لا سيما وان الغرب لا يقلص اسعار منتجاته المختلفة خاصة في مجال الصناعات الحربية والمدنية وتكنولوجيا المعلومات وغيرها من المنتجات التي تحتاجها اقتصاديات الدول العربية وتشتري منها بكميات معتبرة. لا يمكن للغربيين ان يستغنوا عن الاسواق العربية كما لا يمكنهم ان يستغنوا عن البترول العربي وبقية انواع الطاقة وهذا ما يجعل هذه السلعة مهمة لا بد من اعادة الاعتبار لها كسلعة استراتيجية يمكنها ان تستخدم كورقة ضغط حقيقية في المستقبل المنظور.
النفط قد يكون سلعة زائلة لكن الطلب عليه حاليا ومستقبلا سيستمر وان بدائل الطاقة التي يلوح بها الغرب ليس جاهزة للاستخدام بعد. ترى هل ستتغير المعادلة ويضحك العرب من جديد ؟؟. المثل الشعبي المعروف يقول: “يضحك من يضحك اخيرا.”
كاتب وصحفي جزائري