البحر يضع صنعاء في محور بكين موسكو طهران.. هل خسرت أمريكا النفوذ؟

في الثلاثة الأشهر الأخيرة أجرت الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة تغييرات كبيرة لتموضع ” تحالف حماية الإزدهار ” في البحر الأحمر لجهة تقليص القطع البحرية ، حدث ذلك منذ سحبت واشنطن حاملة الطائرات يو اس اس ايزنهاور من المنطقة (عللت ذلك بإجراء صيانة ضرورية) أكدت صنعاء أن الانسحاب كان إجباريا بعد 3 عمليات هجومية نفذتها القوات المشتركة البحرية والصاروخية اليمنية واستهدفت ايزنهاور .
ما يجعل السردية الأمريكية غير دقيقة أن القيادة المركزية والقوات البحرية الأمريكيتين قالتا في وقت متزامن أن حاملة الطائرات روزفلت التي كانت في الأبيض المتوسط منذ ما بعد الـ 7 من اكتوبر ستنتقل للانتشار في البحر الأحمر دون تحديد التوقيت لفعل ذلك ودون الإشارة إلى أنه لا قرار أمريكي بإرسال أو وقف إرسال أي حاملة طائرات في الوقت “الراهن على الأقل ” إلى البحر الأحمر .
بعد وقت قصير سحبت روزفلت من منطقة الشرق الأوسط، لا يزال ذلك يثير نقاشا وتحليلا واسعا .

وفي كل الحالات التطورات اللاحقة مكّنت الرواية التي أكدتها القوات المسلحة اليمنية وحتى قائد الحركة الثورية السيد عبد الملك بدر الدين الحوثي في خطابات متعددة أن ضغطا عسكريا خلف قرار سحب ايزنهاور من أن تفرض نفسها .
 الأمر لا يتعلق بتضارب الروايات فالأهم أن ذلك انعكاس لصراع قفز من فشل تحالف عسكري بحري متعدد الجنسيات تقوده الولايات المتحدة الأمريكية لحماية الملاحة ” الإسرائيلية في البحر الأحمر وباب المندب إلى بدء انحسار النفوذ الامريكي في واحدة من أهم الممرات البحرية وهو مؤشر له دلالات كثيرة .
آواخر أغسطس آب المنصرم نشر موقع ” اكسيوس ” الأمريكي خارطة تكشف خلو البحر الأحمر من أي قطعة بحرية أمريكية ، يحدث ذلك لأول مرة منذ العام 2001 والدلالة التي نقلتها الصورة الخارطة أن انسحابا أمريكيا بحريا يجري من منطقة ” مصنفة ” كمنطقة نفوذ أمريكية “سهلة” إذ أن جميع الدول المطلة على البحر الاحمر والعربي حليفة للولايات المتحدة الأمريكية .

عودة إلى الاعتماد على النفوذ التقليدي ،القواعد العسكرية في الضفة الأفريقية
هناك ثلاثة أسباب تدعم تفضيل قرار الانسحاب :
الأول : اليقين الأمريكي بإن قدرة صنعاء وقبل ذلك وجود قرار باستهداف حاملة الطائرات ” لا فرق هنا أكانت ايزنهاور أو روزفلت ” وتعريضها لأضرار ” محرجة ” احتمال مرتفع جدا ، إن وقع ذلك سيكون بمثابة ضربة قاسية لسمعة الولايات المتحدة الأمريكية التي تقدم نفسها ” كأكبر قوة بحرية في العالم “
انسحبت ايزنهاور قبل العدوان الإسرائيلي على ميناء الحديدة غرب اليمن في 20 يوليو تموز ، وبالتالي حتى لو افترضنا وجود نوايا باستبدالها بروزفلت فكان الأحرى تأجيل ذلك لتجنب أن تكون جزء من الانتقام اليمني ، لاحقا ارتفعت نسبة هذا الاحتمال عقب اغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس اسماعيل هنية في طهران فجر الـ31 يوليو تموز .
عسكريا تملك حاملة الطائرات القدرة على المناورة والدفاع لكن ذلك لا يعني أبدا أن تقوم بذلك لفترة طويلة وأن تنجح بنسبة 100% الهامش وحده يكفي لتعريضها لضربة يمكن تجنبها .
ما يعزز وجود هذه القناعة ما نقله موقع Ward Carroll على اليوتيون عن قائد حاملة الطائرات ايزنهاور كريستوفر تشوداه هيل أن الحاملة كانت معرضة للهجوم المكثف بالصواريخ الباليستية بما جعلنا نفقد الأمان ، علاوة على الضغوط النفسية التي واجهتها ” طواقم العمل .
السبب الثاني : أن مهمة التحالف الذي تقوده واشنطن لحماية الملاحة الإسرائيلية أو المرتبطة بها عبر باب المندب والبحر الأحمر من الهجمات اليمنية المساندة لغزة قد فشلت مثلما فشلت الهجمات الجوية الثنائية المشتركة ” الأمريكية البريطانية ” التي تجري منذ 12 يناير كانون الثاني بهدف ضرب قدرات اليمن العسكرية بما يؤدي إلى الحد من العمليات اليمنية البحرية و الجوية ، وبالتالي فقد التحالف القدرة على الردع مثلما كان المخطط .
السبب الثالث : العودة إلى الاعتماد على الوجود الأمريكي العسكري التقليدي المتموضع في الضفة الأفريقية من تشاد إلى جنوب السودان وافريقيا الوسطى وصولا إلى اثيوبيا وارتيريا والصومال وفي العمق كينيا وسيشل واوغندا ضمن تجمع (أفريكوم ) فضلا عن قاعدة ليمونيير العسكرية الأهم للولايات المتحدة الأمريكية في جيبوتي ، وكل هذه المنطقة تستخدمها الولايات المتحدة الامريكية لتحقيق نفوذها في منطقة البحر الأحمر وباب المندب وصولا إلى البحر العربي .
أبرز إشارة إلى هذه العودة أن الولايات المتحدة الأمريكية لا تزال تنفذ بعض الهجمات على مناطق متعددة في اليمن كان آخرها استهداف منطقة ” ميتم ” شرق مدينة إب وسط اليمن بثلاث غارات إنطلاقا من تلك القواعد العسكرية .
انهيار “تحالف حماية الإزدها ” أم النفوذ الأمريكي في منطقة البحر الأحمر ؟
المقاربة الأمريكية وحتى الإقليمية والدولية تؤمن أن عمليات اليمن في البحر الأحمر والعربي وحظر الملاحة من وإلى كيان العدو الإسرائيلي بتداعياتها على حركة وأسعار الشحن هي مرحلة آنية تنتهي بتوقف العدوان والحصار على غزة ، ومع أن ذلك صحيح، لكن ثمة متغير مهم لا يمكن للولايات المتحدة الأمريكية تجاهله وهو أن الحركة الثورية في اليمن المناهضة للولايات المتحدة الامريكية والتي تجاوزت حرب التحالف ” العربي ” الذي قادته الرياض بدعم ومشاركة امريكية بريطانية منذ العام 2015 تملك قابلية كبيرة برهنتها عسكريا وسياسيا بالانتقال التدرجي السريع نحو التصرف كقوة إقليمية مؤثرة على التمدد الجيوسياسي والجيوقتصادي للولايات المتحدة الأمريكية بما في ذلك على البحرين الأحمر والعربي وبينهما خليج عدن وباب المندب وان ذلك غير قابل أيضا للاحتواء .
سيزداد الأمر تعقيدا بالنسبة لواشنطن فيما اذا نجحت صنعاء توظيف التطورات الأخيرة لصالح مد جسور لعلاقة مع موسكو أو بكين ، ما يفصل هذه العلاقة ليس سوى حسابات لدى روسيا والصين مرتبطة بمصالح البلدين مع دول اقليمية مجاورة لليمن من بينها السعودية ، يعني ذلك لا تقاطع استراتيجي مع صنعاء بنظامها الثوري الحالي ، على العكس تقود العقيدة العسكرية الروسية التي وقعها الرئيس فلادمير بوتين في العام 2022 كنسخة محدثة عن تلك الموقعة في 2015 إلى ضرورة ” تمدد الوجود ” العسكري الروسي بحريا إلى البحر الأحمر لحماية المصالح الروسية وتحقيق الحضور كقوة .
تبحث روسيا منذ زمن ولا تزال عن أي ” موضع قدم ” لحضور عسكري على البحر الاحمر ، والأمل الوحيد الذي كان متاح أمام موسكو استقر في الاتفاق على بناء قاعدة عسكرية في فلامنغو ببرتوسودان شرق السودان قبل ان يتعثر ذلك نسبيا اثر تردد البشير ولاحقا سقوطه بانقلاب عسكري في ابريل نيسان ، صحيح أن المشروع لا يزال قائم والتوجه الجديد لقائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان نحو المحور الصيني الروسي الإيراني يعزز فرص المشروع ، لكن الحرب الأهلية في البلاد لا تزال مفتوحة على تداعيات غير واضحة ، ولهذا تعود موسكو للتفكير في المقولة الشهيرة ” لا بد من صنعاء ولو طال السفر ” إوحدى الطرق الفعّالة لذلك وجود علاقة بين موسكو وصنعاء تتجاوز التواصل القائم ، والتقدير أن ذلك لن يتأخر ، بينما يتطلب من صنعاء كذلك استثمار ثلاث نقاط يمكنها أن تلعب لصالحها للانتقال إلى تحالفات اقليمية ودولية وتبدأ من :
– توظيف الانجازات التي تمكنت من تحقيقها على الصعيد العسكري والسياسي كنتاج للعمليات الناجحة في البحر الأحمر والعربي وصولا إلى المحيط الهادي ضمن إسناد غزة
– استغلال الوضع الاقليمي والدولي والصراع الروسي الغربي والصيني الأمريكي المتنامي والذي يخرج تدريجيا من البارد إلى الساخن
– وضع خطط للاستفادة من الانعكاسات التي يحملها محور المقاومة المتجه حتما نحو تحقيق انتصار استراتيجي على ” اسرائيل ” وحماتها الدوليين .
بحسب تقرير نشرته ” بلومبرغ ” فإن الولايات المتحدة الأمريكية في معركة البحر الأحمر أمام ” شبه دولة ” في إشارة لصنعاء ، التقرير ألمح إلى المستقبل كتحد سيواجه أي إدارة أمريكية قادمة .
في الواقع لم تكشف بلومبرغ جديدا فثمة تسليم أمريكي بفشل التحالف ” حماية السفن الإسرائيلية ” وجدوائية عسكرة البحر، ينظر إليه بأنه محدود وآني يرتبط بالحرب في غزة ، وتسليم آخر استراتيجي يقر بوجود تهديد حتمي لمستقبل نفوذها في هذه المنطقة البحرية الهامة سيثير الكثير من المخاوف ويمتد الضرر ليشمل دولا أوروبية وآسيوية ودولا اقليمية كالسعودية ومصر وقبل ذلك ” اسرائيل ” إذ ان النفوذ يرتبط بحماية حلفاء الولايات المتحدة الامريكية أكثر من أمريكا نفسها .
هو تحول توقعته الولايات المتحدة الأمريكية عندما انهارت جهودها ودول اخرى لتركيب نظام بديل لنظام حليفها السابق علي عبد الله صالح بعد العام 2011 عندما قادت حركة أنصار الله وحلفاء قبليين وسياسيين ثورة نجحت في سبتمبر 2014 ، لكن واشنطن لم تكن تتوقع أن يكون بهذه القوة المتنامية بما يجعلها تهديد لنفوذ امريكي اعتمد على بناء تحالفات وثيقة مع جميع الدول التي تطل على البحر الأحمر والعربي بالاضافة إلى شبكة القواعد العسكرية الأمريكية المحيطة .
طوال الثلاثة العقود التي مضت لم تكن الولايات المتحدة الامريكية تشعر بمنافسة قوية لها على المنطقة الممتدة من حوض البحر المتوسط مرورا بقناة السويس والبحر الأحمر وصولا إلى باب المندب وامتدادا إلى العربي بما في ذلك المنافسة الصينية والروسية ، فبكين تعتمد على استراتيجية الاستحواذ على إدارة الموانئ وشراكات أمنية محدودة وهي أقل من طموح وخطط الرئيس الصيني شي . بينما لا تزال موسكو في بداية الطريق ” فصلنا ذلك آنفا “
” عرض ” إسقاط مركز التهديد
في الداخل اليمني ويمتد خليجيا ( السعودية ، الامارات ، البحرين ) جدل دائم يتعلق بالخطط التي تعتمدها الولايات المتحدة الأمريكية في التعامل مع الفشل السلبي أمام الحركة الثورية الحاكمة في صنعاء وتداعيته على ” الجبهة العسكرية والسياسية ” المنضوية في ” حكومة المنفى ” التي تعمل لصالح واشنطن والرياض ، يشعر هولاء أن ذلك جلب فشلا ثانيا لحق بهم بعد فشل ما يسمى ” التحالف العربي ” بعد أن كانوا وضعوا رهانا يتكئ على أن خصومهم في صنعاء قد وضعوا أنفسهم بعمليات البحر الأحمر في ” فم الوحش ” .
من الواضح أن البيت الأبيض تجنب الدخول إلى مقامرة عسكرية واسعة مع صنعاء حتى مع إشراك واستخدام القوى المحلية اليمنية التي تعمل مع السعودية وصولا إلى إعادة دفع الأخيرة لاستئناف الحرب مع اليمن ، وهذا تحديدا ما كانت تشير إليه وتلوح به تلك القوى ” المحلية ” باعتباره المسار ” الأفضل ” لمعاقبة صنعاء وردعها عن الاستمرار في الهجمات البحرية المساندة لغزة .
العرض الذي قدم لواشنطن خلال لقاءات متعددة مع السفير الأمريكي المقيم في السعودية اسيتفن فاجن والمبعوث الامريكي لليمن تيموثي لينركينغ يضع الاستعداد ” كقوى محلية وجبهات عسكرية مجمدة ” الانتقال إلى مرحلة جديدة تتعلق بالحرب بهدف العودة للحكم وإعادة اليمن مرة أخرى إلى مربع النفوذ الأمريكي .
هذه المعادلة المتعثرة منذ عقد تماما ” المساندة الأمريكية الأوروبية وبعض العربية لإسقاط ” الحوثيين ” وتحالفاتهم” كتهديد للنفوذ الامريكي في الدولة المطلة علي البحرين الاحمر والعربي _ وعلى الرغم أنه عرضا ” مغريا ” يعيد الحرب في الداخل اليمني ، بدلا عن العمليات البحرية والجوي التي تقوم بها صنعاء كإسناد لغزة ، لكن البيت الأبيض قابله بكمية محدودة من الحماس وبالطبع دون رفضه إذ أن القصور من وجهة نظر أمريكية ليس في العرض إنما في ” القوى ” التي ستنفذه ، فهي نفسها التي فشلت طوال 9 سنوات من الحرب ، ولا يغير من الأمر إن بدت بنسخ معدلة .
ما أضيف لاحقا أن الرياض كبحت حماس تلك ” القوى المحلية اليمنية ” التي تعمل تحت جناحها لإسباب تتعلق بمخاوفها من عودة الحرب مجددا . واستند موقف السعودية على تقديرها أن عودة الحرب مع اليمن ستكون مدمرة وأنها لن تقتصر على القوى المحلية بل ستشملها لإنها لا تزال جزء من أي حرب مقبلة مع اليمن قبل أن تنسحب تماما عبر حوار مع صنعاء بدأ في إبريل 2022 يقوم على أساس خفض التصعيد العسكري بما في ذلك الجبهات الداخلية وفتكيك جزئي للحصار والشروع في نقاش سعودي يمني بهدف الوصول إلى السلام .
 اكتفت واشنطن عند هذه الحالة بتجميد خارطة طريق كانت نتاج حوار صنعاء الرياض ولا تزال تفضل استخدام كل الطرق التي تعتقد امكانية أن تؤدي إلى التقليل من التهديد الذي سيشكله اليمن في حال استمرت الحركة الثورية في الحكم والتجذر ضمن محور المقاومة وربما لاحقا المحور الصيني الروسي، وهو بحث يطول .
كاتب وصحفي يمني