وسجلت هيئة التراث خط أنابيب النفط القديم «التابلاين» في سجل التراث الصناعي الوطني تقديراً لأهميته التاريخية ولدلالاته التنموية والاقتصادية المرتبطة بمرحلة بدايات صناعة النفط.
وجاء ذلك بعد مبادرة وزير الثقافة رئيس مجلس إدارة هيئة التراث الأمير بدر بن فرحان، واستجابة وزير الطاقة الأمير عبدالعزيز بن سلمان بن عبدالعزيز بإيقاف أعمال إزالة خط أنابيب «التابلاين»، لتمكين هيئة التراث من دراسته وتوثيقة حيث تولت الهيئة مسؤولية دراسة الموقع وتسجيله.
اول موقع بالتراث الصناعي
وأعدت هيئة التراث بطاقة التسجيل المبدئي لـلتابلاين أول موقع تراث صناعي من بين المواقع الصناعية التي تم حصرها في مختلف مناطق المملكة، تمهيداً لصيانتها والمحافظة عليها لأهميتها الثقافية ولاستثمارها ضمن المعالم الحضارية لتحكي قصة الصناعة والنمو والتطور الاقتصادي في المملكة.
ويعد خط أنابيب النفط، «التابلاين»، من أهم معالم التراث الصناعي في المملكة، ويمتد من شرقي المملكة إلى شمالها، وقد بدأ إنشاؤه عام 1948م بأمر من الملك عبدالعزيز- طيب الله ثراه- ولا تزال بقايا الخط شاهدة على بدايات الصناعة النفطية في المملكة.
تميز هندسي
أشار تقرير لشركة «أرامكو» إلى أن خط أنابيب التابلاين يمثل مأثرة تاريخية في مجال الهندسة حيث أدخل الطاقة إلى أوروبا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وقد كان عند بدء تشغيله عام 1950 أكبر شبكة لأنابيب النفط في العالم، فقد كان ينقل مليارات البراميل من النفط الخام عبر 1648 كيلومتراً من بقيق على الخليج العربي إلى ميناء صيدا على البحر الأبيض المتوسط في لبنان، ليجسد لحظة محورية في تاريخ المملكة وإرث «أرامكو» السعودية.
إلا أن نجاح خط التابلاين كان أكبر بكثير من مجرد مجموع أجزائه المادية التي تقاس بأطنان من الأنابيب الفولاذية، وأكبر أيضاً من طاقته الاستيعابية من النفط، فالفضل في نجاحه يرجع إلى تفاني وفطنة فريق مغامر من المهندسين والميكانيكيين والفنيين، من جميع أنحاء العالم.
وبعد أكثر من 3 عقود من وقف تشغيله، أصبح أول موقع للتراث الصناعي يعترف به رسمياً في السعودية، ليرسخ بذلك مكانته في كتب التاريخ.
من التخطيط للواقع
وأشار التقرير إلى أنه في الوقت الذي شارفت فيه الحرب العالمية الثانية على نهايتها، بات من الواضح أن إعادة إعمار أوروبا تستلزم إمداداً ثابتاً من النفط الخام بكلفة اقتصادية، فقد كانت الرحلة البحرية تستغرق فيما مضى تسعة أيام لتقطع 3.600 ميل من السعودية وتمر عبر قناة السويس لتصل إلى البحر الأبيض المتوسط، رحلة طويلة ومكلفة وغير قادرة على استيعاب الارتفاع المرتقب في الطلب على النفط الخام.
وكان الأمر يتطلب إنشاء خط أنابيب جديد يربط بين حقول النفط الموجودة في شرق السعودية والبحر الأبيض المتوسط.
قامت «أرامكو» في عام 1944 بتأسيس شركة خط الأنابيب عبر شبه الجزيرة العربية في شكل مشروع مشترك بين «أرامكو» وشركات نفط دولية رائدة أخرى، وهكذا بدأت مرحلة تخطيط امتدت لـ18 شهراً أسفرت عن مخطط طموح للغاية. فالمسافات الشاسعة التي ينطوي عليها المشروع، إلى جانب نقص المرافق، ودرجات الحرارة الشديدة والتضاريس الصعبة، هذه العوامل مجتمعة جعلت بناء خط التابلاين أحد أكبر القرارات الاستراتيجية التي كان على الشركة اتخاذها آنذاك.
فقد تقرر أن يمر خط التابلاين عبر الأردن ولبنان وسوريا والسعودية، وانتقل بعدها المخطط من مجرد كونه رسماً هندسياً إلى أرض الواقع عندما بدأت أعمال البناء في عام 1947.
بناء أسطوري
كان بناء أطول خط أنابيب للنفط عبر منطقة الحدود الشمالية للمملكة العربية السعودية في ذلك الوقت مهمة ضخمة.
فقد كانت الجوانب اللوجيستية للبناء مهولة، حيث نقلت السفن 305 آلاف طن من الأنابيب الفولاذية، وكان من المقرر بناء ست محطات ضخ على طول الطريق البالغ 1.648 كيلومترا، الذي كان يحتاج إلى تمهيد أيضاً.
كانت محطات الضخ الموجودة في كل من النعيرية والقيصومة ورفحاء وبدنة وطريف في السعودية والقريتين في الأردن – مصممة لدفع النفط إلى أعلى نقطة في خط الأنابيب التي كانت على ارتفاع 907 أمتار فوق مستوى سطح البحر، ليتدفق النفط منها نزولاً ويعبر شمال الأردن وجنوب سوريا وأخيراً إلى ميناء صيدا اللبناني على ساحل البحر الأبيض المتوسط.
وبعد ثلاثة أعوام من بدء البناء الذي عمل فيه أكثر من 16 آلاف عامل، لحمت آخر وصلة من خط التابلاين بتاريخ 25 سبتمبر 1950.
خط التابلاين بعد التشغيل
حقق التابلاين النجاح. ففي عام 1950، أنتجت «أرامكو» 200 مليون برميل من النفط. وفي عام 1951، الذي يوافق أول عام لتشغيل خط الأنابيب بالكامل، ارتفع إنتاج «أرامكو» إلى 278 مليون برميل، وقد كان أكثر من ثلث الإنتاج يضخ عبر خط التابلاين.
وقد برهن التابلاين على أنه شريان فولاذي طويل لضخ الطاقة إلى الأسواق الغربية، مما أدى إلى تسريع تطوير «أرامكو» ونموها خلال الخمسينيات من القرن الـ20، فضلاً عن تلبيته للاحتياج العالمي الذي تلا الحرب حيث وفر مصدراً موثوقاً من النفط الخام بكلفة اقتصادية.
تطوير المملكة
غير خط التابلاين المنطقة الشمالية للمملكة العربية السعودية إلى الأبد، فقد حقق لها الرخاء والازدهار وجلب معه المرافق على امتداده، كما أنشئت أحياء سكنية جديدة حول محطات الضخ الست الأساسية، بمنازل ومدارس وقاعات طعام بنيت لعائلات الموظفين الذين يعملون على خط التابلاين. وبحلول منتصف ستينيات القرن الـ20، توسعت تلك الأحياء السكنية لتضم المساجد والمتاجر والمرافق الترفيهية والمسارح والملاعب – وأصبحت بذلك مسكناً لأكثر من 5 آلاف شخص.
وعلى رغم توقف خط التابلاين عن الخدمة منذ عقود، فإن البلدات التي نشأت على جانبية لا تزال عامرة حتى اليوم- فطريف التي لم يكن لها وجود في عام 1945، ها هي اليوم ميناء لدخول السعودية.
كما حقق خط الأنابيب طفرة استثمارية للشركات الصغيرة وأصحاب المشاريع الفردية: فبين عامي 1947 و1952، دفعت«أرامكو» وشركة التابلاين أكثر من 46.8 مليون دولار لأكثر من 10 آلاف مقاول مستقل، مما وفر مهارات جديدة وتدريباً في إطار هذا العمل.
اكتمال المهمة
ظل خط التابلاين أحد المكونات الأساسية لشبكة نقل النفط في «أرامكو» لأكثر من 40 عاماً، حتى جاء جيل جديد من ناقلات النفط العملاقة التي فاقته من حيث الحجم والجدوى الاقتصادية فقللت من المزايا الاقتصادية لشركة التابلاين. فتوقفت بذلك عمليات الضخ، ولكن خط الأنابيب استمر في نقل كميات قليلة من النفط مقارنة بسابق عهده حتى عام 1990.
فبظهور الناقلات العملاقة الجديدة التي تبلغ حمولتها 500 ألف طن، التي أصبحت اليوم الطريقة المثلي لنقل النفط حول العالم، توقف تشغيل خط التابلاين تماماً و«جرى تفكيكه» أو إفراغه أخيراً في عام 2001.
خط التابلاين اليوم
اليوم، لا تزال قصة خط التابلاين معروفة جيداً بين أولئك الذين عملوا عليه أو الذين يعيشون بالقرب منه، حيث يتشاركون ذكريات جميلة عن التحديات والتجربة الفريدة التي خاضوها أثناء العمل على أطول خط أنابيب في العالم.
وفي ديسمبر 2020، اختارته وزارة الثقافة السعودية ليكون أول موقع للتراث الصناعي في السعودية، فيما تجرى دراسات وأعمال مسح لإدراج الموقع ضمن قائمة التراث العالمي لليونيسكو.
لا يزال خط الأنابيب الفعلي يمتد بمحاذاة الطريق السريع في شمال السعودية- الذي يحمل اسمه «طريق التابلاين». الوضع الراهن لـخط التابلاين، ونظراً إلى أنه متروك من دون استخدام، يشكل بحجمه الهائل تحدياً أمام جهود المحافظة عليه والاحتفاء به. فعلى رغم تفكيك محطات الضخ الرئيسة الأساسية منذ فترة طويلة، فإن خط الأنابيب لا يزال يمثل نصباً تذكارياً يخلد البراعة والرؤية والتصميم التي كانت وراءه في يوم ما، وإحدى المحطات التاريخية في إرث «أرامكو» السعودية.