لكل خطة هناك خطة معاكسة ولكل مشروع هناك مشروع معاكس وبما أنّ الصراع مع اليهود وليس كل اليهود إنما أولئك الذين يقاتلوننا في ديننا وأرضنا هو صراع وجود وأنّ هذه الأرض لا تقبل المساومة ولا المقاسمة فليكن النصر لأهل الأرض الذين تعرفهم بتريتها وشجرها ونبتها وزرعها بزيتونها وليمونها وبكل ذرة من ترابها عجنت بدمائهم وأنبتت أبطالاً يحرسونها ويقدمون أرواحهم قرابين لتحريرها من أولئك القتلى والمجرمين الذين جاؤوها من كل حدب وصوب ومن أصقاع العالم الذي لفظهم ورفضهم على أرضه بحثاً عن وطن يلم شملهم ويجمع أشتاتهم فكانت فلسطين أرض الشتات وفق ما وقع عليها الاختيار بعد بحث وتحري ما بين أوغندا وقبرص وسيناء والأرجنتين.
وبعد خمسة وسبعون عاماً من الاحتلال لهذه الأرض وإعلان الدولة المشؤومة عام 1948 ومئة وستة وعشرون عاماً على المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 والذي دعا إليه آنذاك “تيودور هرتزل” حيث أطلق هرتزل الحركة الصهيونية ورؤيتها لإقامة الدولة اليهودية في فلسطين. ولمن لا يعرف من هو “تيودور هيرتزل” فقد كان مراسلاً في باريس لصحيفة يومية نمساوية، وآنذاك اندلعت موجة من معاداة السامية في فرنسا عقب محاكمة ضابط فرنسي يهودي يدعى “ألفريد دريفوس” بتهمة التجسس لصالح ألمانيا.
وبتأثير تلك الأحداث، وذاك الاحتقان من معاداة السامية، أقدم هيرتزل، على تأليف “كُتيب” باللغة الألمانية في شباط 1896 حمل عنواناً رئيسياً هو: “دولة اليهود”، وعنواناً فرعياً هو: “محاولة لإيجاد حل حديث للمسألة اليهودية”. واستند هيرتزل في الكُتيب المذكور إلى اندلاع موجة من معاداة السامية في فرنسا الناتجة عن محاكمة الضابط الفرنسي اليهودي “الجاسوس الألماني” معتبراً أنّ “الحياة في أوروبا لا تحتمل بالنسبة إلى اليهود، وأن المجتمعات الأوروبية لن تسمح باندماج اليهود فيها”، وبالتالي فإن الحل الوحيد هو أن تكون المسألة “اليهودية” مسألة “قومية”، لأن اليهود وفق زعمه يشكّلون “شعباً”، وعليه أن يقيم “دولة” خاصة به، (رغم أنّ كل نظريات ومبادئ علم السياسة والقانون والانثروبولوجية وكيفية نشوء المجتمعات والدول لم تقل بأنّ الشعب أو القومية أو الدولة تقوم على الدين فقط بل نبذت كل أشكال التفرقة وقالت بالهوية المجتمعية الواحدة التي تنصهر قي بوتقتها كل الهويات الأخرى، ولربما لو كانت رؤية هيرتزل صحيحة لكان العالم قائم على ثلاث دول فقط يهودية وإسلامية ومسيحية) واقترح آنذاك لهذه الدولة أن تكون في “فلسطين أو الأرجنتين” وكانت “أوغندا” ضمن قائمة الاقتراحات التي سقطت فيما بعد لطبيعة المنطقة بالنسبة لليهود، ولم يخفِ هيرتزل طموحه بأن تصبح الدولة اليهودية المنشودة في “فلسطين” لتكون جزءاً لا يتجزأ من المشروع الاستعماري الأوروبي في الشرق، وقد كتب حول ذلك “وبالنسبة لأوروبا، فإننا سنشكّل هناك حاجزاً يفصلها عن آسيا وموقعاً أمامياً للحضارة ضد البربرية”.
وبالفعل، نجح هيرتزل، في عقد المؤتمر الصهيوني العالمي الأول الذي افتتح أعماله في 29 آب/أغسطس 1897، في مدينة بال السويسرية بمشاركة أكثر من مئتي مندوب قدموا من 24 دولة، وأكد، بعد إعلانه قيام “المنظمة الصهيونية العالمية”، أن “الصهيونية تتطلع إلى إقامة وطن للشعب اليهودي في فلسطين يضمنه القانون العام”، (هذا القانون ذاته الذي درسناه وفي مبادئه رفض قاطع للعنصرية وتجريمها ووضوح تام في مبادئه التي تتنافى مع “إقامة وطن للشعب اليهودي في فلسطين” لإنّ القانون العام نفسه عرّف أي وجود لدولة ما على أرض دولة أخرى هو احتلال وسن قوانين الاحتلال وفق ذلك التعريف، حتى أنّه عرّف الوطن بأنه حيث مكان الإنسان ومحله وهو المكان الذي يرتبط به الشعب ارتباط تاريخي طويل وهو المنطقة التي تولدت فيها الهوية الوطنية للشعب).
والجدير بالذكر، أنّ المؤتمر الصهيوني العالمي الأول تجنّب استخدام تعبير “دولة يهودية”، واكتفى بتبي تعبير “وطن”، كي لا يثير مشاعر العداء لليهود في أوروبا وداخل الإمبراطورية العثمانية، وهي الصيغة نفسها التي وردت، في إعلان اللورد بلفور في 2 تشرين الثاني/نوفمبر 1917، الذي مثّل المحطة التاريخية الثانية، بعد مؤتمر بال، على طريق تطوّر المشروع الصهيوني، ومن ثمّ جاءت وثيقة إعلان قيام كيان إسرائيل في 14 أيار / مايو 1948 بعد انتهاء الانتداب البريطاني على فلسطين وإعلان ديفيد بن غوريون الرئيس التنفيذي للمنظمة الصهيونية العالمية ومدير الوكالة اليهودية قيام “الكيان الإسرائيلي” واحتلال “الشعب اليهودي” لما أسماه “أرضه التاريخية”، وكان هذا المسار التاريخي الذي سبّب نكبة قاسية لا يزال الشعب العربي الفلسطيني بخاصة، والشعوب العربية بعامة، يعانيان ويلاتها إلى اليوم.
وفي عودة على بدء كانت المنطقة العربية برمتها بما فيها فلسطين خاضعة للاحتلال العثماني أثناء قيام “اليهود” بحراكهم آنذاك وصولاً لعقد المؤتمر الصهيوني العالمي الأول في 1897، ومع إعلان اللورد بلفور عام 1917 كانت المنطقة العربية برمتها بما فيها فلسطين خاضعة للاحتلال البريطاني والفرنسي اللذان تقاسما التركة العثمانية ومع إعلان إنشاء الكيان الإسرائيلي كانت المنطقة العربية برمتها تخوض حروب التحرير من هذا الاحتلال وتسعى لتضميد جراحها فكانت النكبة العربية عام 1948 والنكسة العربية عام 1967 وحرب تشرين الأول/ أوكتوبر 1973 واجتياح لبنان 1982 وتحرير الجنوب عام 2000 وما بينهما من عمليات المقاومة الفلسطينية واللبنانية وطلقات خالد علوان في بيروت 1982 وعملية عماد مغنية بتفجير السفارة الاميركية في بيروت 1983، وعملية سناء محيدلي 1985 وحرب تموز 2006، وسيف القدس وثأر الأحرار ووحدة الساحات ونفق الحرية وصولاً إلى نكبة “إسرائيل” في 7 تشرين الأول/أوكتوبر 2023 في طوفان الأقصى. وفي هذه البانوراما السريعة لمسار الأحداث نلاحظ أنّ حالة الضعف التي كانت بها المنطقة العربية برمتها سمحت لهذا الكيان بالولوج من مكامن الضعف إنما اليوم باتت تلك المكامن معنونة بالقوة والتي فعلت وغيرت وجه التاريخ وكشفت زيف مزاعم الحكومات الغربية تجاه فلسطين والشعب الفلسطيني وكانت الخطة المعاكسة للمشروع الصهيوني هو مشروع المقاومة بكل أطيافها.. والتي نجحت في تصدير الرواية الفلسطينية الحقيقية إلى العالم أجمع وحشدت الرأي العام حولها باعتبارها قضية الحق الفلسطيني. وهنا لا بدّ من استثمار هذه النهضة الشعبية العالمية ولتكن وفق الخطة المعاكسة بإطلاق “الحركة الفلسطينية” ورؤيتها لـ”إقامة الدولة القومية في فلسطين”، لإيجاد حل حديث لـ”المسألة الفلسطينية” أمام ما يتعرض له الفلسطينيون من إبادة جماعية وجرائم ضدّ الإنسانية والتهجير القسري والتطهير العرقي ما يرقى إلى جريمة “معاداة الفلسطينية” (كما كان سابقاً “معاداة السامية” هي الحجة التي دفعتت اليهود للبحث عن “وطن”) وبالتالي الدعوة لإقامة “المؤتمر الفلسطيني الأول” وليكن في بكين أو في موسكو، بحضور مندوبين حول العالم ومناصري الحق الفلسطيني حول العالم ليتم تبني إعلان “جمهورية فلسطين العربية” بناءً على الوثائق التاريخية التي تؤكد وجودها وتبني قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة المتعلقة بحق العودة وبكامل المسألة الفلسطينية، وتبنّي استفتاء شعبي داخل الجمهورية الفلسطينية لمن يريد البقاء ضمنها، مع تبني حركة المقاومة والكفاح المسلح حتى تحرير كامل أراضي جمهورية فلسطين العربية من الاحتلال، (خاصة وأنّ التاريخ يمتلك القرائن الدامغة بأنّ “إسرائيل” احتلال ورث عن بريطانيا الأرض الفلسطينية التي ورثتها بدورها عن السلطنة العثمانية). وأن تبادر كل من روسيا الاتحادية والصين الشعبية إلى الاعتراف بـ”جمهورية فلسطين العربية” وتبني هذا المؤتمر خاصة وأنّ اعتراف روسيا بجمهورية فلسطين سيصحح لها خطأ التاريخ و”العار” الذي لحق بها باعتبار أنّ الاتحاد السوفييتي كان أول من اعترف بـ”دولة إسرائيل”، ناهيك عن أنّ الكنسية الأرثذوكسية ستحمي مصالحها في بيت لحم وستعيد هذه الكنيسة أمجادها المشرقية وستكون جمهورية فلسطين العربية جزءاً لا يتجزأ من المشروع الأوراسي – المشرقي، فبالنسبة للشرق والجنوب العالمي سيكون لديه الفرصة التاريخية للوقوف في وجه غطرسة الغرب والشمال العالمي، وستشكّل جمهورية فلسطين حاجزاً منيعاً عن الأطماع الغربية وموقعاً أمامياً للحضارة الشرقية ضد البربرية (الليبرالية) الغربية.. فهل سيستفيد من هذه الفرصة التاريخية وتحديداً روسيا ! مع العلم أنّ أي تحرك دولي تجاه التعددية القطبية وتغيير النظام العالمي الأحادي القطب الحالي لن ينجح إن لم يتم اجتثاث هذا السرطان من الأرض العربية باعتباره حامي المصالح الأميركية والغربية وبراثن النظام الاستعماري..
كاتبة صحافية سورية وباحثة في العلاقات الدبلوماسية