بات واضحاً أن الحرب أزمنت ولا مخرج منها، والمفاوضات التي كانت تجري لإطلاق سراح الأسرى لا لوقف الحرب توقفت طبعاً بفعل فقدان الرغبة لدى اسرائيل لإنجاحها، لشعورها بأن الميدان بات لصالحها بعد أن نجحت في إعادة احتلال غزة، ولأن الحكومة اعتبرت منذ بداية الحرب بأن هؤلاء المحتجزين ضحايا حرب، وبالتالي لا يستحقون بنظرها أن توقف حرباً اعتبرتها تهديداً وجودياً من أجلهم.
أزمنت الحرب لأن حركة حماس على الجانب الآخر لم تعرف بعد ما الذي يحدث، وهي تتحدث عن “إنجازات غير مسبوقة” كما يقول رئيس مكتبها السياسي في ظل حملة الإبادة وإعادة احتلال غزة، بعد أن كانت تفخر بطرد الاحتلال، فقد كانت راهنت على عدم قدرة الجيش على الدخول برياً في القطاع.
في السابع من أكتوبر أهين الجيش الإسرائيلي وتلقى ضربة شديدة، ولكن تداعيات ما حدث على الفلسطينيين أكبر بكثير مما حدث، وهو ما دعا لسؤال السياسة حول التوازن المفقود في إدارة الصراع على نمط الفزعة دون حساب العواقب، وحين يحدث نلجأ للشعار واللغة والتخوين، وعندما يحتاج الأمر هرباً من نقاش كانت فداحة أحداثه أكبر من أن يحتملها المشروع الوطني الذي كانت غزة مركزاً وليس هامشاً في سياق الصراع. كيف حدث أن تمت المغامرة بغزة بهذا القدر؟ أجاب الدكتور العقلاني في حركة حماس أحمد يوسف على صفحته على الفيس بوك “لو كانت المساءلة والمحاسبة ضمن سلوكياتنا التنظيمية ومنهجيات أخلاقنا الحركية لكنا اليوم في منأى عما حدث”.
غزة تعرضت وتتعرض لزلزال عنيف وهزة كبيرة لن تُشفى منها، وقد أُهينت بشدة، قُتل مَن قُتل بعشرات الآلاف وأكثر من ضعفهم جرحى وعجزة، أُهين فيها الرجال والنساء والشيوخ”، كلها أصبحت نازحة والجيش الإسرائيلي يدخل كل المدن ويشق شارعاً ويبني ميناء ونقاط تفتيش عبارة عن معسكرات كبرى ثابتة بغرف إسمنتية وخدمات، ويقتل كل من يفكر بالعودة للشمال، ويستمر بتفريغه بالترويع والتجويع والاقتحامات كما يحدث في مستشفى الشفاء ومحيطه. بالتالي يبدو الحديث عن إنجازات غير مسبوقة حديثاً منفصلاً عن الواقع أو يفتقد للتوازن بين الربح والخسارة، في نكبة جديدة لم يكن بإمكان إسرائيل دون فعل كبير أن تفعل ما فعلت.
لا يعني أن اسرائيل انتصرت، فهي كما قال وزير الدفاع الاميركي لويد أوستن أمام خسارة استراتيجية. ولكن الفلسطينيين أيضاً تعرضوا لضربة استراتيجية، فمن يعرف التاريخ الفلسطيني يدرك أن دور غزة ذات الـ 1.3% من فلسطين كان عمود خيمة في المشروع الوطني، وقد تعرض هذا العمود لإصابة مزمنة حد الكسر، ويدرك أن المشروع الوطني برمته تعرض لضربة كبيرة لن يُشفى منها.
يصعب الحديث مبكراً عن المراجعة وسط المعركة وهي ليست معركة بل حرب إبادة، ولكن الحديث الآن يجب أن يتركز على وقفها، وإذا كانت إسرائيل مستمرة بمشروعها وتعلن أن لا وقف للحرب، وإذا كان العالم لا يستطيع وجزءٌ منه لا يريد فكيف ستقف الحرب؟ حركة حماس باعتبارها طرفاً في الحرب هل بإمكانها وقف الحرب؟ الحرب تنتهي بطريقتين؛ الأولى: أن تكون الأقوى في الميدان ترغم اسرائيل على وقفها نتاج خسائر عير محتملة، وهذا غير متوفر بعد الاجتياحات الواسعة، أو أن تتفاوض مع أطراف فلسطينية أو عربية وتسلمهم الأمر. فلا يمكن أن تستمر الإبادة وتستمر إسرائيل بترسيخ وجودها وتستمر “حماس” بالحديث عن إنجازات استراتيجية، فهذا يعني زيادة الكلفة وليس هكذا تدار السياسة ولا الحروب ولا الشعوب.
تتجهز إسرائيل لاجتياح رفح، وهو ما أعلنته مراراً رغم مطالبات العالم وتحذيراته لكنها ماضية، وقد أمر نتنياهو بشراء أربعين ألف خيمة للنازحين، منها نحو شمالها أي خان يونس ودير البلح وليس لشمال غزة، وفي نفس السياق يتم إنشاء البنية التحتية لاحتلال دائم في القطاع والسيطرة عليه وتواجد مستمر يسمح بالدخول إلى أي منطقة وفي أي وقت.
لماذا لم تتواصل “حماس” مع القوى والأحزاب والتيارات الفلسطينية والسلطة، وتقول لهم: تعالوا نفكر بالحل لتلك الكارثة؟ هل تستطيع وحدها إنهاء الامر والعودة لحكم غزة؟ إذا كانت تفكر بهذا الشكل وأظن أن الأمر كذلك، فنحن أمام تفاقم الكارثة وأمام تجسيد للانفصال عن الواقع. فإسرائيل تستغل اللحظة لتنفيذ أخطر المخططات وأكثرها عدوانية في ظل العجز الفادح عن لجمها ووقفها سواء بقوة السلاح أو بالقوة الدولية.
وفي سياق البحث عن مخرج للإبادة لا بد وأن تتلقى حركة حماس قدراً من الانتقادات، ليس بسبب فقدانها لتوازن العمل المسلح والحفاظ على وتيرة تؤلم العدو بكلفة معقولة لدى شعبها، لكن لإدارتها للحرب إدارياً وسياسياً وغياب التفكير الجمعي مع الكل الفلسطيني، وترك الواقع يفعل فعله باعتبار أن هناك إنجازات غير مسبوقة، لكنه يوغل نحو مساحات لم يحلم بها الفلسطيني في أسوأ كوابيسه، من كارثة فاقت في فداحتها النكبة الأولى. صحيح أننا أمام مرحلة جديدة ستطيح بكل الفصائل الشاهدة على تلك النكبة كما فصائل الأربعينات التي اختفت، ولكن الدم في غزة لا ينتظر حركة التاريخ البطيئة.