يبدو أن البشرية قد دخلت بالفعل في عصر الثورة الصناعية التكنولوجية الرابعة؛ حيث لم يعد العصر هو “الرقمنة” و”المعلوماتية” وإنما معهما الآلية الجديدة للذكاء الاصطناعي، الذي هو ببساطة نوع من محاكاة العقل الإنساني وقدرته على ربط المعلومات ونسج المعارف وتحليلها واستنباط أنماطها. الشكل البسيط منه هو تتبع الإنسان في اختياراته وأذواقه الفنية والأدبية والموسيقية وتصويته في الانتخابات العامة، بحيث يمكن أولاً توجيه كل ذلك ساعة تسويق السلع والمواقف، وثانياً تشجيع الاختيارات ساعة المنافسة.
هذا ليس مجرد تطور آخر في أدوات البحث والمعرفة، ولكنه ثورة كاملة ربما لا تزال في العصر “البرونزي” أي في أولها، ولكنها أصبحت مسجلة في الرصيد الإنساني. وبهذا المعنى لعلها سوف تكون أسرع انتقال جرى في التاريخ البشري منذ عرف الإنسان النار. الحقيقة هي أن هناك تسارعاً كبيراً في الثورات التكنولوجية التي تشهدها البشرية، فقد استغرق البشر ٢٠٠٠ عام للانتقال من الثورة الزراعية إلي الثورة الصناعية الأولي، أما الانتقال للثورة الصناعية الثانية فقد استغرق ٢٠٠ عام فقط، وخمسين عاماً للدخول إلي الثورة الصناعية الثالثة، أو الثورة الرقمية، وصولاً للثورة الرابعة التي جوهرها الذكاء الاصطناعي في أقل من عقدين.
كنت أنا وأبناء جيلي من مواليد الأربعينيات من القرن الماضي محظوظين؛ عندما عشنا الثورة الصناعية الثانية التي تجلت أكثر ما تجلت أثناء الحرب العالمية الثانية، حينما باتت آلة الاحتراق الداخلي بديلاً كاملاً للآلة البخارية التي كانت علامة الثورة الأولي في القطارات والسفن. الآن أصبحنا نعيش في عصر السيارات والطائرات، وبدأت الطفرة الكبيرة في الاستخدامات المنزلية واختراع التلفزيون، ومعه أنواع جديدة من الطباعة والدواء، ومع كل ذلك بدأ عمر الإنسان يزيد.
لم نبلغ منتصف العمر حتى واجهتنا الثورة الرقمية، وكانت هناك مقاومة نفسية للأكاديميين منا والصحافيين وكثير من الصناعيين في تقبل الثورة الجديدة التي جاءت عفية ومزدهرة مع ظهور الكمبيوتر الشخصي، ونجومه وأبطاله من أمثال ستيفن جوبز وبيل غيتس. ما بقي بعد ذلك من تفصيل وتحسينات انتشرت في المجالات الصناعية المختلفة حتى وصلنا إلى التليفون (الجوال). كل ذلك انتقل من جودة إلى أخري من خلال تطبيقات جديدة تفتح مجالات أمام الاتصال الإنساني، حتى جاء التطبيق الجديد Chat GPT الذي أخذ ذلك كله إلى عالم جديد، وخلال شهرين فقط من خروجه إلى النور كان ١٠٠ مليون من البشر يستخدمونه في سابقة غير مسبوقة لا عرفتها “غوغل” ولا “فيسبوك”.
“Chat GPT” عبارة عن روبوت محادثة تم إطلاقه في ٣٠ تشرين الثاني ٢٠٢٢. وطرحت مايكروسوفت أيضاً منتجها الخاص ولكنه مع الأيام لم يكن قادراً على المنافسة. هو نموذج دردشة تم تطويره بوساطة “OpenAI”، وهي منظومة أبحاث في مجال الذكاء الاصطناعي من أجل مغالبة “غوغل” في أكثر من مجال، أهمها أنه لا يقدم المعلومات والمعرفة فقط، وإنما فوق ذلك قادر على تطويرها وتقديمها في أشكال البحوث والمقال. التطبيق تم بناؤه باستخدام تقنيات التعلم العميق المتطورة مستخدماً الذكاء الاصطناعي الذي لا يتدخل في الأمور الفردية فحسب، بل له تأثير كبير على القيم السياسية والمجتمع ككل، حينما ينتقل من الحالة الفردية إلى الحالة الجماعية في الاستخدام. وهنا يكون التأثير بحيث يديم التحيز والتمييز من خلال أنظمة القرار والتوصية والتدخل في الانتخابات.
ومن الممكن أن تؤثر هذه التقنيات على سوق العمل، كما يمكننا أن نتوقع من الخوارزميات إما أن تكمل كفاءات العمال وتزيد من إنتاجيتهم، أو تقلل من إمكانية توظيف البشر تماماً.
ويمكن لتطبيق “Chat GPT” أن يؤثر على السياسة بعدة طرق: أولاً، يمكنه مساعدة السياسيين في إنشاء خطاباتهم وبياناتهم الصحافية ومقترحاتهم السياسية من خلال إنشاء نص متماسك وجيد الصياغة. كما يمكنه مساعدتهم في توصيل أفكارهم ومواقفهم بشكل فعال، ما يسهل عليهم التواصل مع الناخبين وكسب دعمهم. ثانياً، “Chat GPT” قادر على تحليل كميات هائلة من البيانات والمعلومات، مثل بيانات الاقتراع واتجاهات وسائل التواصل الاجتماعي، ويمكنه مساعدة السياسيين على فهم القضايا التي تهم الناخبين بشكل أفضل وصياغة سياسات أكثر انسجاماً مع الرأي العام.
وعموماً هناك مخاوف بشأن التطور السريع في تقنيات الذكاء الاصطناعي، وفي حين أن هذه المخاوف تماثل ذاتها التي جرت مع كل الثورات الصناعية السابقة، فإنه لا يوجد إجماع حول ما إذا كانت المخاطر ستتحقق وإلى أي مدى. وفي العموم سوف تكون السياسة التكنولوجية المصممة بعناية قادرة على تعزيز تطوير الذكاء الاصطناعي، مع إبقاء آثاره السلبية تحت السيطرة كما حدث منذ اكتشاف النار.
ما رأيك؟
رائع0
لم يعجبني0
اعجبني0
غير راضي0
غير جيد0
لم افهم0
لا اهتم0