بيروت- (بي بي سي):
قضت محكمة فرنسية الاثنين بسجن الكاهن اللبناني منصور لبكي 15 عاماً، وبإدراج اسمه في سجل مرتكبي الجرائم الجنسية.
المحكمة التي أصدرت حكمها غيابياً، أعلنت أن مذكرة التوقيف الصادرة بحق لبكي عام 2016، ستبقى سارية المفعول.
وحكم لبكي بتهمتي اغتصاب وتهمة اعتداء جنسي على ثلاث قاصرات، يعتقد أنها وقعت في بلدة دوفر لا ديليفراند الفرنسية، حيث أدار ميتماً بين عامي 1990 و1998، وفي باريس.
وقعُ الحكم قد يحلّ ثقيلاً على المدافعين عنه، الذين يرون فيه الأب الروحي، والأيقونة، والرمز، المعروف بترانيمه التي تناقلتها الأجيال، بكتبه وعظاته وأعماله الخيرية؛ ولكنّ توصيف المحكمة لا لبس فيه.
صورة الرجل الناصعة في أذهان محبيه، توازيها صورة قاتمة مرعبة، في شهادات من تقدّمن للادعاء عليه والشهادة ضدّه على مرّ السنوات، في فرنسا.
بالنسبة لهنّ، هو من سلب طفولتهنّ، وتسبّب لهنّ بصدمات نفسية لم تندمل بعد، بالرغم من مرور عقود على حوادث الاعتداء.
الرجل مدان أيضاً في الفاتيكان، حيث أصدر مجمع عقيدة الإيمان حكماً عليه بالاعتداء الجنسي على ثلاث قاصرات عام 2012، وثُبّت الحكم بالاستئناف عام 2013.
مجمع عقيدة الإيمان هو المرجعية الأولى للبت بالقضايا اللاهوتية والأخلاقية وموقف الكنيسة منها، وقد تأسس منتصف القرن السادس عشر، للنظر في ملفات الهرطقة، خلال حقبة محاكم التفتيش.
ومع السنوات، بات مختصاً بكل ما يتعلق بالإيمان والأخلاقيات وتعزيز قواعد السلوك داخل الكنيسة. ومنذ عام 2001 نقلت مسؤولية النظر في قضايا الاعتداء الجنسي على قاصرين، من الأساقفة المحليين، إلى هذا المجمع.
ومن خلال إدانته في روما، ينضمّ رجل الدين الماروني إلى لائحة طويلة من الكهنة والأساقفة والكرادلة الكاثوليك المتهمين بالبيدوفيليا، في أنحاء العالم كافة، من كندا إلى تشيلي، ومن ألمانيا إلى الولايات المتحدة، الذين نظر المجمع في قضاياهم، فأدان بعضهم وبرّأ آخرين.
ورغم ما تصفه الكنيسة بسياسة “لا تسامح” في قضايا الاعتداء الجنسي على قاصرين، تشكّل أحكام المجمع مادة للجدل بالنسبة للمعنيين، لأنها تشمل في أقصى حالاتها تجريد المعتدي المدان من رتبه الكهنوتية.
فالقضاء الكنسي لا يملك سلطة السجن أو تطبيق عقوبات جزائية، وبالتالي يعامل المرتكب “كخاطئ” أخلّ بنذوره وبوصايا الكنيسة، وليس “كمجرمٍ”.
ما الجديد في القضية؟
الاثنين في 8 نوفمبر، أدين لبكي للمرة الأولى أمام قضاء جزائي، في فرنسا، بعدما كان الحكم الوحيد الصادر بحقه إدارياً كنسياً.
تشمل التهم الموجهة إليه أمام محكمة كالفادوس في منطقة كَن الفرنسية (مقاطعة النورماندي شمال البلاد)، تهمتي اغتصاب وتهمة اعتداء جنسي على ثلاث قاصرات، يعتقد أنها وقعت في بلدة دوفر لا ديليفراند الفرنسية، حيث أدار ميتماً بين عامي 1990 و1998، وفي باريس.
بحسب محامية المدعيات صولانج دوميك، تشمل القضية شهادة نحو أربعين امرأة فرنسية ولبنانية – فرنسية، من بينهن ثلاث مدعيات لم تسقط شكاويهن بمرور الزمن.
وتشير دوميك إلى أنّ أول الادعاءات المعروفة ضد لبكي تعود للعام 1975، وآخرها يعود للعام 2005، بين لبنان وفرنسا، علماً أن المحاكمة الراهنة لن تطال إلا الادعاءات المحقّق بها على الأراضي الفرنسية.
تعمل دوميك على قضية منصور لبكي منذ عام 2013، حين تقدمت سيدة فرنسية بشكوى، أمام محكمة في كَن، ضد الكاهن اللبناني الذي تقول إنه اغتصبها حين كانت في سنّ 13 عاماً.
أما على الجبهة الكنسية، بدأت الشكاوى بالوصول إلى المرجعيات الأسقفية في فرنسا بدءاً من عام 2011، ثم أحيلت إلى الفاتيكان للنظر فيها.
أقرّ لبكي بالاعتداء على ثلاثة من الشاكيات، من أصل 17 مدعية قلن إنه اعتدى عليهن، بحسب نص الحكم الصادر عام 2012، ولكنه تمسك في المقابل بنفي باقي الاعتداءات المنسوبة إليه، قائلاً إن بعض تصرفاته كانت نابعة من عاطفة بريئة فُسّرت خطأً كأفعال جنسية.
شمل الحكم الصادر عن مجمع عقيدة الإيمان، إدانة بالاعتداء الجنسي على طفلة بدأ في السابعة من عمرها وتواصل بين عامي 1990 و1996 على أقل تقدير، بحسب نص الحكم، وبالاعتداء الجنسي واغتصاب طفلة في الثالثة عشرة بين عامي 1996 و1997، وبالاعتداء الجنسي على طفلة في الرابعة عشرة بدءاً من عام 1976.
يقول نصّ الحكم عن المجمع الفاتيكاني إنه، مع “مراعاة سنّ لبكي”، حكم عليه بعقوبة “حياة من الصلاة والتكفير عن الذنب في مكان منعزل، مع حظر أي اتصال بالقاصرين، والحرمان من المناصب الكنسية كافة، ومن إحياء القداديس، ومن تقديم أي توجيه روحي أو المشاركة في أحداث عامة، أو التصريح لوسائل الإعلام أو الكلام مع الضحايا”.
حالياً، ينفذ لبكي الحكم الكنسي، في دير راهبات الصليب في بلدة برمانا اللبنانية (منطقة المتن).
تأتي محاكمة لبكي في فرنسا، بعد أسابيع قليلة من صدور تقرير اللجنة الفرنسية المستقلة المعنية بالاعتداءات الجنسية على الأطفال في الكنيسة، أو ما عرف بـ”لجنة سوفيه”، التي وثقت تعرض 216 ألف شخصاً في فرنسا لانتهاكات جنسية، حين كانوا قاصرين، من قبل كهنة ورهبان وراهبات. وشمل التقرير الموسع شهادات عن اعتداءات وقعت بدءاً من عام 1950 حتى وقتنا الراهن.
بحسب دوميك، صحيح أنّ موكلاتها لسن مشمولات في “تقرير سوفيه”، لكن هذا التقرير جعلهن “يشعرن أن شيئاً ما تغيّر، وأن الكنيسة تستمع إليهنّ وتدعمهنّ”.
من هو منصور لبكي؟
ترافق الحكم الفاتيكاني على لبكي في حينه، مع موجة ذهول ونكران، تتناسب باتساعها مع اتساع شهرته وتأثيره الممتدَين لأجيال في لبنان.
يومها، وبعد نشر خبر إدانته في صحيفة “لا كروا” الكاثوليكية الفرنسية، شكِّلت لجان قانونية وعائلية للدفاع عن سمعته، وتحلّق حوله أصدقاء مطالبين بإنصافه من “مؤامرة محبوكة بإتقان”.
ردة الفعل الداعمة للبكي، لم تكن مفاجئة، فالرجل ليس بالشخصية العادية، إذ لحّن ترانيم حظيت بانتشار واسع، وباتت جزءاً من التراث الماروني والمسيحي، ليس في لبنان فقط، بل في جوقات الكنائس في مصر، وسوريا، وفرنسا أيضاً.
من أشهر ألحانه قصيدة “أعطنا ربّي” من كلمات سعيد عقل، التي اشتهرت بصوت ماجدة الرومي.
كما عرف لبكي خلال الحرب الأهلية بدوره في تأسيس جمعيات خيرية، ورعاية أيتام، في لبنان وخارجه، وله مؤلفات روائية ترجمت إلى لغات عدّة، إلى جانب تقديمه برامج تلفزيونية.
في حيثيات الحكم الصادر عن الفاتيكان، يشار إلى لبكي بأنه “يتمتع بشخصية كاريزمية، توحي بالأمان، ساحرة (…)، ويبني روابط قوية مع الآخرين، ويعطيهم الانطباع بأنه قادر على تحريرهم من أعبائهم، وبأنهم مميزون. ينجذب إليه الناس فوراً، ويجدونه آسراً”.
ويتابع نص الحكم: “يستخدم المتهم الضغط النفسي على ضحاياه، ويتلاعب بهنّ عقلياً وعاطفياً وروحياً”، وحين تقع الضحية بشكل كامل تحت تأثيره، “لا يتردّد في استخدام سلطته المعنوية، والروحية، والدينية، لطلب خدمات جنسية”. ويضيف: “تفقد الضحايا أي قدرة على النقد الذاتي، وأي تقييم موضوعي للأحداث”، ويشير إلى أن كلمات مثل “معلّم” و”طائفة” تتردّد كثيراً على لسان الضحايا والشاهدات.
وكان البابا فرنسيس رفع عام 2019 السرّ البابوي في قضايا النشر المتعلقة بجرائم الاعتداء الجنسي المرتكبة داخل الكنيسة الكاثوليكية، وسمح بمشاركة الوثائق ونصوص التحقيقات مع الجهات القضائية المهتمة، ولكنه لم يتحها للجمهور.
تواريخ
1940: ولد منصور لبكي في بلدة بعبدات – المتن (لبنان).
1966: سيم كاهناً في الكنيسة المارونية حيث تولى مهاماً عدة وأخذ على عاتقه تجديد التراث الليتورجي من خلال ترانيمه.
1976: شهد مجزرة الدامور ككاهن رعية البلدة الساحلية الواقعة في قضاء الشوق. وتعدّ المجزرة نقطة مهمة في ذاكرة الحرب الأهلية اللبنانية، وتتهم بارتكابها فصائل فلسطينية. أسس بعدها عدداً من المياتم بين لبنان وفرنسا.
1990: أسس جمعية “لو تدحال” وتعني بالسريانية “لا تخف”، وانتقل إلى فرنسا، حيث أسس “بيت سيدة أطفال لبنان” في بلدة دوفر لا دليفراند في النورماندي الذي أغلق أبوابه عام 1998.
2005: أسس “بيت مريم” في بلدة لورد الفرنسية كي يكون مقراً للبنانيين الراغبين بزيارة مزار سيدة لورد، أحد أبرز مواقع الحج الكاثوليكي في فرنسا والعالم.
2013: ثبّت مجمع عقيدة الإيمان حكم إدانته بالاعتداء الجنسي على قاصرات.
2016: صدور مذكرة توقيف دولية تطلب من لبنان تسليمه للمحاكمة في فرنسا، ولبنان يرفض تسليمه.
2021: أدين غيابياً بالسجن 15 عاماً أمام محكمة جزائية فرنسية في تهم الاعتداء على قاصرات.
ماذا تقول محامية المدعيات؟
بالنسبة للمحامية صولانج دوميك، مجرد وصول لبكي إلى المحاكمة، وإن غيابياً، “يعدّ نصراً بالنسبة للناجيات، لأنهنّ بلغن مرحلة المحاكمة أخيراً، بعد سنوات من الصبر والقلق والضغوط.”.
وكانت مذكرة توقيف دولية صدرت بحق لبكي عام 2016، للمثول أمام القضاء الفرنسي، لكن لبنان امتنع عن تسليمه.
تخبرنا: “حين بدأت الضحايا بالكلام عن تجاربهن، لم يصدقهنّ أحد، حتى أهلهنّ وأصدقائهن، وقالوا عنهنّ مجنونات”.
دوميك تحدثت إلى بي بي سي نيوز عربي قبل صدور الحكم بالإدانة، وتقول: “نحارب منذ ثماني سنوات، لا من أجل المال ولا من أجل أي تعويض آخر، بل فقط من أجل موكلاتي، كي يستعدن كرامتهن، لأنهن جرحن واغتصبن وانتهكن في قلوبهن كطفلات، وفي حياتهنّ كمراهقات”.
لماذا لم يتحرك القضاء اللبناني؟
حتى الآن لم يتحرّك القضاء اللبناني لإجراء أي تحقيق بشأن الادعاءات المساقة ضد لبكي.
يقول أنطونيو زعنّي، وهو أستاذ في القانون، ومحام بالاستئناف، ومن المطلعين على ملف لبكي القانوني، إن الكاهن لم يمثل أمام المحكمة في فرنسا لأنّ “صحّته لا تسمح له بالسفر، وقد أجرى عملية في القلب، ومنعه الطبيب من ركوب طائرة”.
خلال السنوات الماضية، وبينما كان المسار القضائي الجزائي في فرنسا يأخذ مجراه، تقدّم لبكي بشكوى ضدّ بعض المدعيات ومحاميهنّ، بتهم التشهير، و”تشكيل عصابة أشرار”، وفبركة ملفات للإطاحة به، أمام القضاء اللبناني.
من جانبها، تنفي دوميك ما يقال عن تلفيق، “لأن الضحايا لم يكن يعرفن بعضهن البعض، والتقين بالمصادفة حين بدأن الإدلاء بشهاداتهنّ”.
من جانبه، يقول زعنّي الذي تحدث إلى بي بي سي نيوز عربي قبل صدور الحكم، إنه مستعدّ للاعتذار من المدعيات إن “ثبتت بالدليل القاطع” إدانة لبكي، “فنحن نطلب الحقيقة”. ولكن أليست إدانة الفاتيكان إثباتاً كافياً، خصوصاً أنها تتضمن اعتراف لبكي بثلاثة من الادعاءات ضده؟ يردّ زعنّي: “لا يعقل أن يقرّ إنسان عادي، بتهمة مماثلة، فكيف إن كان إنساناً بذكاء الأب لبكي؟”
يتمسّك زعنّي بصعوبة إثبات شكاوى المدعيات، بسبب مرور الزمن، ولعدم وجود شهود يدعمون أقوالهن. كما يرى أن حكم الفاتيكان لم يراع حق لبكي بالدفاع عن نفسه، ولا أصول المحاكمات، وأن سياسة “لا تسامح” قد تساهم في منع المحاكمات العادلة عن كهنة أبرياء.
يقول المحامي إن لبكي “رفع نير الحرب عن آلاف الأولاد، رباهم، وعلّمهم، وزوّجهم، وأنشأ مؤسسات خيرية كثيرة، إلى جانب مؤلفاته، ولم يكن لديه الوقت لتلك الأشياء التي يضعونها على كاهله”.
ويرى زعنّي أن سبب تلفيق القضية يعود إلى كون “لبكي شخصية مهمة جداً بالنسبة للطائفة المسيحية في لبنان. ضرب منصور لبكي ضرب للإيمان بالكنيسة، فقد هدموا سمعته، وعمله، وفضله على الطائفة”.
حاولت بي بي سي نيوز عربي التواصل مع محامية الدفاع عن لبكي أمام القضاء الفرنسي فلورانس رو، لكن الأخيرة لم تستجب لطلب الحديث.
هل تتستّر الكنيسة في لبنان على الكهنة المتحرشين؟
تداولت وسائل إعلام لبنانية عام 2016، تصريحاً للبطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي، قال فيه إن هناك تجنياً على لبكي، لكنه تراجع عن أقواله لاحقاً، مجدِّداً “طاعة بكركي لكلّ ما يصدر عن الفاتيكان “. فالكنيسة المارونية في لبنان، ومقرّ بطريركيتها في بكركي، تتبع سلطة بابا روما كنسياً وإدارياً.
سألنا المطران حنا علوان، المشرف على المحكمة المارونية الموحدة (وهي محكمة عليا، تشمل محاكم الأبرشيات المارونية كافة في لبنان)، إن كانت الكنيسة المارونية محرجة أو تتهرّب من قضايا التحرّش الجنسي بالأطفال من قبل رجال الدين.
يقول: “نحن نتبع البابا، رأس الكنيسة، والمشرّع الأول، ونلتزم بتشريعات روما ونطبقها. طلب منا وضع قانون خاص بموضوع التحرش بالقاصرين، وأنجزناه قبل أربع سنوات، ونعمل على تطبيقه. وفي كلّ مرة يصلنا خبر عن حالة من هذه الحالات، نتابعها حتى النهاية”.
يتفادى علوان إعطاء تفاصيل حول نوعية الحالات المذكورة وأعدادها، وكيفية معالجتها، “حفاظاً على خصوصية الأشخاص، ومنعاً للتشهير بهم”. لكنه يقول إنهم يطبقون سياسة “لا تسامح، تبعاً لتوجيهات البابا. وإذا ثبت على كاهن أنه متحرش، وتبعاً لنوع التحرش، وزمن الحادثة، ندرس الملف بحسب حيثياته، ونختار العقوبة، قد تصل حد التوقيف عن الكهنوت، كعقوبة قصوى”.
الكنيسة قد تحرم الكاهن من ممارسة الكهنوت، وقد تنفيه من الحياة العامة، ولكن من يتابع الأمر جزائياً، أو يفتح على الأقل تحقيقاً للتثبت من وقوع الجرم؟
تحاط مزاعم الاعتداء الجنسي على أطفال في القضاء بالسرية، وما نستطيع التثبت منه إلى الآن، وجود ملفي اعتداء جنسي على قاصرَيْن من قبل رجلَيْ دين، من طائفتين مسيحيتين مختلفتين، في المحاكم الجزائية اللبنانية.
تخبرنا المحامية لمى كرامة من جمعية “المفكرة القانونية” التي تتابع الملف، أن من يشتكون أمام القضاء في لبنان، “يتعرضون لضغوط مهولة لإسقاط الدعاوى”.
ماذا تقول الناجيات؟
تقول المحامية صولانج دوميك إنه قد يكون “هناك المزيد من ضحايا منصور لبكي في لبنان، اللواتي لا يجرؤن على الحديث في الموضوع، خوفاً من الضغوط”، بحسب اعتقادها.
حتى الآن، لم يتم التقدم بشكوى إلا من قبل مقيمات في الخارج، ومن بينهن سيليست عقيقي، ابنة شقيقة منصور لبكي، والتي مثلت الاثنين أمام المحكمة في فرنسا كواحدة من الشاهدات، وتحدثت إلينا قبل صدور الحكم.
بالرغم من مرور الزمن، كانت قضية عقيقي من بين القضايا الثلاثة المثبتة في حكم مجمع عقيدة الإيمان في الفاتيكان، وتخبرنا أن المجمع “أسقط مبدأ التقادم، لفداحة الأفعال التي ارتكبت بحقي”. فحتى مع مرور وقت طويل على الحادثة، نظر المجمع الفاتيكاني إلى خطورتها، كونها تندرج في خانة السفاح.
توفي والد سيليست حين كانت في سن 13 عاماً، وزاد حضور الخال منصور لبكي في حياة أسرتها الصغيرة، كمرشد روحي، وشخصية أبوية، يحمل العاطفة والحلول لكلّ مشاكل الطفلة.
تخبرنا أن الاعتداء الجنسي عليها بدأ حين كانت في سن الـ14، وتزامن مع بداية الحرب في لبنان. “كنت مجبرة على إخفاء الموضوع، صرت مثل الآلة، أخفي الحزن الذي يتملكني بابتسامة كاذبة. وحين كبرت، وهاجرت، صرت ألاحظ أنني أكره نفسي، وأن شعوراً بالعيب والعار يرافقني دوماً. كنت أشعر بوحدة داخلية رهيبة، وأوجه الحقد والغضب الذي كان يجب أن أوجهه للمعتدي، تجاهي. من دون علاج نفسي كنت سـأموت، أنا أكيدة من ذلك”.
لم تخبر سيليست أحداً بالقصة. بعد مرور سنوات طويلة، وجدت الشجاعة لإخبار واحد من شقيقيها، فلم يصدقها في البداية، نظراً لتأثره بلبكي كشخصية أبوية في حياته. لكنه بدأ يشكّ حين كثرت الشهادات، وبدأ يسمع قصص الضحايا الأخريات، والآن “يصدقني بالكامل”، كما تخبرنا.
توفيت والدة عقيقي عام 2014، ولكنها صدقت ابنتها على الفور حين قدمت شهادتها في فرنسا لأول مرة عام 2011.
وبعد صدور حكم الفاتيكان قاطعت الأم شقيقها منصور لبكي بالكامل، ومعه “أغلبية العائلة التي أخذت صفه، باستثناء عدد محدود من الأقارب”، كما تقول سيليست.
التفاصيل المشتركة بين شهادات المدعيات، من حقب ومناطق مختلفة، ومعظمهن لا يعرفن بعضهن البعض، كانت من العوامل التي ساعدت في إدانة لبكي أمام مجمع عقيدة الإيمان.
بدأت السبحة تنفرط، واكتشفت سيليست أنها لم تكن وحيدة. لكنّ ذلك لم يعفها من تبعات الشهادة ضدّ شخصية بشهرة ونفوذ لبكي، إذ اتهمت بالبحث عن الشهرة والمال، وبتنفيذ “مخططات حاقدة”.
تقول سيليست: “لو كانت شهادتي من أجل الشهرة أو المال، ما كنت انتظرت كل تلك السنوات لكي أصبح جاهزة لمشاركة قصتي. لا يمكن لشيء أن يعوّضنا عن تبعات الهجوم الذي تعرضنا له فقط لأننا روينا ما حدث. لا مبلغ مالياً يمكن أن يغطّي الجريمة أو يمحوها. وليتها لم تكن شهرة، إن كانت الناس ستعرفني لأني ضحية منصور لبكي، كان من الأفضل لي أن أبقى غير معروفة “.
من الأسئلة التي تطرح دوماً على من تكشفن عن تعرضهن إلى اعتداء جنسي، سبب انتظارهن لسنوات طويلة، كي يروين قصصهنّ، وذلك ما سمعته سيليست كثيراً، من باب التشكيك بروايتها.
تقول: “كيف كان لي أن أروي قصتي، وأنا طفلة، وخالي ليس مجرد كاهن عادي، بل منصور لبكي. وحتى عندما كبرت، احتجت لسنوات طويلة من العلاج النفسي لكي أجمع نفسي، وأستطيع الحديث بالموضوع، ولكي أفهم أني لم أكن أنا المذنبة، ولكي أكون قوية لمواجهة من قد يكذّبون أقوالي”.
كانت اللحظة الفارقة في رغبة عقيقي بتقديم شهادتها، سماعها عن اعتداءات مزعومة من قبل لبكي في فرنسا. “شعرت أن ضميري لن يسمح لي بأن أبقى صامتة”.
تعرف سيليست أن مؤيدي منصور لبكي لن يصدقوها. “لا مشكلة، أنا لم أحكِ كي أقنعهم بشيء، حكيت فقط من أجل من يعيشون تجربة مماثلة، لكي يفهموا أن الذنب ليس ذنبهم، بل ذنب من اعتدى عليهم. قد تكذب ضحية واحدة، ولكن أيعقل أن يتكرّر الموقف نفسه مع عشرات الضحايا ويكنّ جميعهنّ كاذبات؟”.
تتمنى عقيقي لو يصار إلى محاكمة لبكي في لبنان، “لإنصاف أي ناجية لبنانية، قد لا تجرؤ على رفع صوتها علناً”.
تقول: “لست ضد الكنيسة، ولا ضد الإيمان، أنا مسيحية مؤمنة، ولكن الحقيقة لا تضعفنا، بل تقوينا، ولمعالجة هذه المشكلة، يجب الاستماع للضحايا وتصديقهن، والخروج من عقلية العيب والعار”.
“خيانة الآباء”
لعبت صحيفة “لا كروا” الفرنسية دوراً مهماً في نقل الأخبار عن قضية منصور لبكي، حين كانت محاطة بالسرية.
تابعت الصحافية سيلين وايو الملف، منذ بدايته. وإلى جانب مقالاتها عنه في “لا كروا”، أفردت له مساحة في كتابها “خيانة الآباء” (دار بايار – 2021)، الذي خصصته لتحقيق مفصّل وطويل عن الاعتداءات الجنسية في حرم الجماعات المسيحية الجديدة التي تأسست في فرنسا بعد المجمع الفاتيكاني الثاني (1962-1965)، ومن ضمنها “لو تدحال” (لا تخف بالسريانية) التي أسسها لبكي عام 1990.
وعرفت تلك الجماعات نجاحاً جماهيرياً، “في وقت كانت الرعايا تفرغ، وبدت الكنيسة كأنها تفقد الكثير، في فترة طبعتها العلمنة”، بحسب الصحافية.
تقول وايو إن تلك الجماعات ظهرت كأنها تمتلك الوصفة العجائبية للإنقاذ، من خلال شخصيات المؤسسين المرسلين من “العناية الإلهية” والقادرين على إعادة الإيمان إلى المجتمع.
تتابع: “تمكنت تلك الشخصيات الكاريزمية من تلبية توقعات الكاثوليك الذين كانوا يتطلعون إلى علاقة شخصية مع الله، وحياة مجتمعية أخوية. وهنا تكمن عبقرية أولئك المؤسسين، إذ جمعوا بين ذلك المسعى الروحي، والقدرة على تجسيد سلطة توحي بالأمان، وطريقة إيمان جديدة، تفسح المجال للمشاعر، والحنان، والعاطفة، والجسد. لذلك كان ينظر إليهم من قبل أجيال من الكاثوليك كقديسين ورسل من الله، فاعتصموا بسلطتهم المطلقة للإفلات من العقاب”.
وتعيد وايو السبب في انتشار الاعتداءات وسط تلك الجماعات، إلى تعامي قادة الكنيسة عن أولئك الآباء المؤسسين، مع إعجاب القيادات الكاثوليكية بنجاح جماعاتهم، إلى جانب غياب أي قوة موازنة لهم سواء خارج جماعاتهم، أو داخلها، حيث أحاطوا أنفسهم بتلاميذ متأثرين جداً بصورتهم، مع تهميش وشيطنة أي شخص يجرؤ على الانتقاد.
من أبرز الفرضيات التي شغلت وايو في كتابها، كان السؤال عما إذا كان أولئك الآباء المؤسسون “منحرفين” في الأصل، أم أنهم اكتسبوا نوعاً من الغرور الروحاني نتيجة افتتان الآخرين بهم، حتى بلغ بهم الأمر القدرة على ارتكاب أي فعل من دون الخوف من عقبات؟
تقول وايو لبي بي سي: “لو كان الأمر عبارة عن انحراف ناتج عن نجاحهم، لافترضت أنهم سيتراجعون، عند مواجهتهم بأفعالهم. ولكن، على العكس، كانوا دوماً في حالة نكران، ومظلومية، وتبرير، وحتى رفع دعاوى على الضحايا، كما في حالة لبكي”.
تشير وايو إلى أنها تفادت رسم نموذج نمطي واحد لأولئك الآباء، لكن المختصين بعلم النفس الذين تحدثت معهم خلال الإعداد لكتابها، ساعدوها أكثر على فهم تلك الشخصيات “مزدوجة الوجه”.
تخبرنا: “قلة منهم، ينطبق عليهم توصيف الشخصيات المنحرفة، بمعنى أنهم يستمتعون بالتحكم بالضحايا وتدميرهم، فيبنون منظومة تساعدهم على إرضاء انحرافهم. أما أكثرهم، فلديهم عيب نرجسي، ويستخدمون الآخرين لتحقيق غاياتهم (روحياً، فكرياً، مالياً، عاطفياً، وحتى جنسياً)، ليس من أجل سدّ ذلك العيب، ولا بنيّة التدمير، بل لتعطشهم الدائم لنيل الاعتراف، وليكونوا في المركز”.