غير خاف على أحد أن الهاجس الرئيسي الذي لازم اسرائيل منذ تأسيسها والى هذا اليوم هو شعورها بعدم الاستقرار، ومنذ ذلك الوقت والى هذا اليوم وهي تسعى لتبديد هذا الهاجس، وتحركت على أكثر من اتجاه لتحقيق ذلك، ومن بين هذه الاتجاهات المجال العسكري، ومع أن الظاهر يشير الى أن اسرائيل حققت تفوقا عسكريا من خلال انتصارها في الحروب التي خاضتها مع الدول العربية؛ غير أن المقاومة اللبنانية والفلسطينية اللتان تمنعان اسرائيل من اجتياح لبنان وغزة برهنتا على أن التفوق العسكري الاسرائيلي مجرد وهم، ولو رفعت الولايات المتحدة وعموم الغرب يده عن اسرائيل وأوقف دعمه لها لكانت قد انهارت في الشهور الأولى من تأسيسها.
أحد المجالات التي تحركت اسرائيل تجاهها لتبديد هاجس عدم الاستقرار هو الاعتراف الدولي بها، ومع انه ما عدا ايران والى حد ما سوريا لا تشكل أية دولة في العالم تهديدا وجوديا مباشرا لاسرائيل إلا أنها ورغم كل ذلك لا تشعر بالاستقرار، وما لم تعترف جميع دول العالم وخاصة الدول العربية والاسلامية وتقيم علاقات دبلوماسية معها فانها ستواصل استخدام أدواتها للضغط على هذه الدول لتقيم العلاقات الدبلوماسية معها.
احدى الاستراتيجيات التي استخدمتها اسرائيل للتطبيع واقامة العلاقات الدبلوماسية مع الدول العربية والاسلامية هي تحويل بوصلة العداء منها الى ايران، الأمر الذي يدفع الراي العام العربي والاسلامي الى تقبل فكرة اقامة العلاقات مع اسرائيل خاصة أن العديد من الدول العربية تبنت هذا النهج، وبدأت وسائل اعلامها تروج لسياسة ان ايران تشكل الخطر الداهم عليها وليست اسرائيل، ولم تكتف بذلك بل قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع طهران، ومع أن بعض الدول العربية والاسلامية اقامت علاقات دبلوماسية مع اسرائيل؛ إلا أن معظمها تريثت حتى تقدم تل أبيب على الخطوة التالية لما بعد قطع العلاقات مع ايران، وهي التوصل الى اتفاق مع الفلسطينيين وتسوية كل المشاكل معهم وحل الدولتين، ولكن تبين لهذه الدول ان نتنياهو لا يهمه حل الدولتين وتسوية المشاكل مع الفلسطينيين ولاهم يحزنون، وانما همه الوحيد هو اقامة العلاقات الدبلوماسية مع الدول العربية والاسلامية وابقاء ايران في عزلة دولية وابقاء العقوبات عليها.
بعد رحيل نتنياهو لم تكن أولوية بينيت اقامة العلاقات الدبلوماسية مع الدول العربية والاسلامية وانما ارساء وتعزيز التحالف الحكومي والسعي الى حل المشاكل الاقتصادية والأمنية، ومع انهيار التحالف، عاد نتنياهو للحكم وعادت معه استراتيجية “ايرانفوبيا” وفي الأيام الأولى لتسلمه مقاليد السلطة بدأ يروج في وسائل اعلامه لقضية استعداد بعض الدول العربية والاسلامية لاقامة العلاقات مع اسرائيل، حتى جاءت لحظة الاعلان عن اتفاق ايران والسعودية على اعادة العلاقات بينهما الأمر الذي وجه صفعة قوية لاستراتيجية نتنياهو وأحرق ورقته التي قامر بها على مدى سنوات خلال حكومته السابقة.
قرار السعودية بعودة العلاقات مع ايران ذكرني بقرار كوريا الجنوبية قبل نحو 7 سنوات عندما فاز دونالد ترامب بالسلطة ومن ضمن القضايا التي أعلنها في بداية مجيئه، هي انه دعا الدول التي تحصل على الحماية الأميركية بدفع مبالغ لقاء الحماية التي تحصل عليها، فبادرت سيئول بتطبيع علاقاتها مع بيونغ يانغ لتتجنب ابتزاز ترامب لها.
يبدو لي أن الرياض وصلت الى قناعة أن السياسة التي انتهجتها الولايات المتحدة خاصة في ظل حكومة ترامب وكذلك اسرائيل خلال حكومة نتنياهو الأولى استنزفت الكثير من طاقاتها ومواردها وامكانياتها وامكانيات دول المنطقة، وبما أن نتنياهو عاد ويجر معه تلك السياسة فانها قطعت الطريق أمامه من خلال قرار اعادة العلاقات مع ايران،، ولكن هذا لا يمنع نتنياهو من السعي الى احباط مشروع عودة العلاقات الايرانية السعودية، خاصة وانها لم تقتصر على البلدين بل أنها تطورت واتسعت ابعادها الى العلاقات العربية السورية.
الصمت الذي يلوذ به نتنياهو لا يعني بتاتا انه راض عما يجري بين ايران والسعودية أو بين سورية والسعودية، بل أن الظروف التي يمر بها كيانه والتظاهرات والاحتجاجات الواسعة والتي من المتوقع ان تقضي عليه لا تسمح له بالتركيز على هذا الموضوع واعطائه الأولوية، لذلك لو بقيت حكومته فسيفعل المستحيل لوضع العراقيل أمام عودة العلاقات وتطورها، خاصة وانه لن يكون وحيدا في هذا المسعى وانما ستقف الى جانبه الولايات المتحدة، ولعل ما جرى خلال اليومين الماضيين في سوريا وقيام القوات الأميركية بقصف بعض المواقع بصورة وحشية يشير الى أن حكومة بايدن بدأت بدورها التحرك من أجل احباط اي مسعى للتقارب مع ايران وسوريا.
ولكنني أعود وأكرر ما قلته في المقال السابق الذي تكرمت رأي اليوم بنشره، وهو أن السياسة الأميركية والاسرائيلية ليست قدرا محتوما علينا ولايمكن تجاوزه بل يمكن ذلك مع وجود قرار وارادة قوية بتنفيذه.
باحث في الشأن الايراني