جاء ذلك في حوار مثري ناقش فيه عدة مواضيع في برنامج “مخيال” الذي يبث على القناة السعودية الأولى، كل يوم جمعة الساعة ١ ظهراً ويقدمه الإعلامي عبدالله البندر، وهو سلسلة من الحلقات مع شخصيات بارزة ذات سيرة حافلة بالعطاء والإنجازات التي تركت أثرًا إيجابيًا في المملكة والوطن العربي.
وروى السفير تركستاني الذي عمل سفيراً لدى إمبراطورية اليابان لسبع سنوات في الفترة من عام 2008م وحتى 2015م، تفاصيل رحلته منذ بداية دراسته في اليابان وقبل عمله بها كسفير، وتفرده عن أقرانه بعدم سفره للدراسة في أمريكا أو بريطانيا كما هو متعارف عليه، فبعد تخرجه بشهادة بكالوريوس علاقات عامة وإعلان من كلية الآداب قسم الإعلام بجامعة الملك عبدالعزيز، عام 1980، قال: “كانت وقتها هناك إشكالية بيننا وبريطانيا حجمت ابتعاث الطلاب، وكانت هناك مقولة شهيرة للأمير سلطان بن عبدالعزيز رحمه الله، بأنه “يجب ألا نضع البيض كله في سلة واحدة”، وعندما كان هناك اتجاه لقطع العلاقات دار السؤال في كيفية توفير البديل، ففكرت في النظر للشرق، وكانت هناك نظرة للملك فيصل رحمه الله، تجاه للشرق، حيث بدأ في رحلة تاريخية، وزار اليابان عام 1971، لذلك وقع اختياره على اليابان.
وأضاف أنه كان يطمح بأن يدرس في اليابان، بالرغم من بعض الصعوبات التي واجهها من بعض أفراد المجتمع، ورفضهم لذلك، ولكنه واجه تلك الصعوبات فكان يستمع للإذاعة اليابانية عندما كان طالباً، مبيناً أنه لم تكن هناك بعثات طلابية من السعودية إلى اليابان في ذلك الحين، إلاّ أنه حصل على منحة من اليابان مع زميل آخر، ولم يكن يعرف التحديات التي سيواجهها في سبيل الدراسة هناك، التي وصلت إلى درجة كان يذهب فيها إلى محطة القطار ويبكي هناك، ففي استقباله في اليابان لم يكن مُستقبِله يتحدث سوى اليابانية والفرنسية، وكان أمراً صعباً بالنسب له في بادئ الأمر، لكن إجادة للغة الإنجليزية، سهلت له بعض الشيء.
وحول أبرز الصدمات الثقافية التي صادفته بعد وصوله إلى اليابان، قال السفير تركستاني: النظام، وهو أول شيء أبلغني به البروفيسور المشرف على رسالة الماجستير، وطالبي بتعلم النظام إذا أردت النجاح في اليابان، وأعطاني فرصة دراسة اليابان لمدة ستة أشهر، للتعرف على الحضارة اليابانية.
وبين أنه تعلم اللغة اليابانية من التلفاز، وقال كنت أجلس 8 ساعات أمام التلفاز مثلما أدرس 8 ساعات في الجامعة، لم أكن أفهم شيئاً، أسمع الكلمة وأرددها، فأتقنت السمع، ولكن لدي المبادرة ونحن كعرب لدينا روح التحدي، وأتمنى أن يستفيد منها الطلاب العرب فليس هناك مستحيل.
القنبلة النووية
استرسل تركستاني مبيناً أن الأمريكيين لم يكونوا مركزين على “هيروشيما ونجازاكي” لاستهدافهما بالقنبلة الذرية، بل كان تركيزهم على طوكيو وكيوتو، وكانوا يبحثون عن أماكن الصناعة في اليابان لاستهدافها ومن بينها هيروشيما التي تعد من المدن الصناعية، ونجازاكي التي يوجد بها أهم ميناء لليابانيين، لذا وقع الاختيار عليهما، و لم يكن الأمريكيين يريدون الانتقام من الإمبراطورية اليابانية فحسب، بل أرادوا تجربة القنبلة النووية، حيث كانوا مجهزين قنبلتين نوويتين، وأرادوا تجربتها في مدن يابانية، ولو كان اليابانيون يعرفون أن الأمريكان لديهم فقط قنبلتين ما كانوا استسلموا.
وأضاف تركستاني أن عدد القتلى نتيجة الهجوم النووي كان 140 ألف شخص، بل إن بعضهم اختفوا، وأوضح انه وجد في متحف هيروشيما عندما زارها حجراً وظل شخص، وعندما سألهم قالوا أنه كان يقف شخص هنا واختفى، وذراته تلاشت من قوة الضربة النووية، وبيّن تركستاني أن الأمريكيين لم يتوقعوا قوة الضربة، لكن إصرارهم على تركيع اليابانيين، وإنهاء القوة اليابانية، دفعهم لإلقاء القنبلة الأخرى في نجازاكي بعد 3 أيام من القنبلة الأولى في أغسطس 1945، ونتج عن ذلك اختفاء أكثر من 80 ألف ياباني في لحظة واحدة، وفي ذلك الأوان استسلم الامبراطور الياباني، بعدما كان أمام أمراً واقعياً أمام شعبه، ولابد أن يستسلم ويسلم كل شيء.
الاستعمار الياباني
وفي هذا الصدد أوضح السفير تركستاني أن المؤرخين صنفوا الاستعمار الياباني بأنه أقسى أنواع الاستعمار في العالم، لأنه كان لا يتوانى عن عمل أي شيء مقابل الحصول على ما يريد، وقال “بعض الروايات تقول إن الياباني إذا أراد شراء سيف جديد، ويريد تجربته والتأكد من مدى جودته، كان يأتي بـ 3 أو 4 يابانيين يقتلهم ليجرب عليهم، والوحشية وصلت بهم إلى هذه الدرجة.
وحول كيف استطاع اليابانيين أن يعيدوا إعمار اليابان بهذا الشكل في سنوات بسيطة، ذكر السفير تركستاني، أن الشعب الياباني شعب غريب وعجيب، وعلى الرغم من أنه عاش كثيرا في اليابان، إلا أنه لا يزال يبحث ويكتشف الشخصية اليابانية، لدى كتاب الشخصية اليابانية من منظور عربي، وكتاب آخر بعنوان “كيف تقول لا” باللغة العربية، لأن الياباني لا يقول لك لا، لكنه يقولها من خلال عدة طرق.
وبين أن الشعب الياباني يمتلك شخصيتين، الأولى المؤدب واللطيف والمجامل، وشخصية حقيقية هي التي عمل بها أثناء الحرب، لذا فإن الياباني يستطيع أن يكيف شخصيته العدوانية إلى شخصية منتجة، لذا فإنهم بعدما استسلموا ونزع منهم السلاح، وأنشأوا قوة الدفاع الذاتي، كان الأمريكان يريدون الحد من العسكرة اليابانية.
وأوضح أن اليابانيين في عام 1986، كان نسبة عدد المتعلمين، تعادل نسبة المتعلمين في عدد من الدول ومنها دول عربية، حيث وصل العدد إلى 800 ألف متعلم، وأصبح الياباني يستطيع تغيير فكره من اختراف آلة حربية إلى آلة سلمية.
واستدل على ذلك، بشركة “كانون” وقال بالمصطلح العربي تعني مدفع، لكنها شركة متخصصة في الكاميرات، وهناك شركات أخرى كان هدفها عسكري بحت، لكنها تحولت إلى صناعات سلمية، مشيراً إلى أن متوسط دخل الفرد في اليابان في عام 1948 لا يتعدى 200 دولار، لكنه قفز الآن إلى 42 ألف دولار، حيث تم تعزيز دور الشركات الصغيرة والمتوسطة، والتي بلغ عددها أكثر من 25 مليون شركة، وهي أحد أسباب نجاح الشركات الكبيرة.
دعم الصناعات الوطنية
وفي هذا الجانب، أشار السفير تركستاني إلى أن الشركات اليابانية الصغيرة والمتوسطة، اعتمدت على الدعم الحكومي، حيث إنه كانت الدولة تدعمهم على كل جهاز يتم تصنيعه، وقال لدينا بفضل من الله في المملكة هيئة المنشآت والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة، لتعزيز دورها في خدمة المجتمع المدني الصناعي والاستثماري.
واستبعد أن تكون اليابان بعد الحرب العالمية الثانية بدأت من الصفر، وقال لم تبدأ من الصفر، بل حولت الفكر والقوة الحربية إلى مدنية صناعية، وساعدتها أمريكا في هذا الشأن.
وبين أن نظرية الجودة في اليابان مؤسسها أمريكي، لم يجد له سوقاً في أمريكا، فجاء إلى اليابان لتنفيذ تلك النظرية، والتي يجب أن نتميز بها كمجتمع عربي ومسلم، وهي “التخصصية”، لأن الياباني متخصص لا يعمل في أكثر من دور، وهو لا يمارس “الفلسفة”، لذا فإنه يجيد الأمر بالتكرار، وهنا مبعث تفوقه.
وأشار إلى أنه في الفترة ما بعد الحرب، سافر اليابانيون إلى دول العالم، وتعرفوا على بعض الصناعات، بعضها تمت سرقتها، وبعضها طوروه، وهم خلقوا شيئاً من لا شيء، وضرب مثالاً بما تم تطويره، إذ اشترى ياباني من ألمانيا “صفاية البنزين” في السيارات بـ 200 دولار، وأنتج صفاية جديدة بـ 50 دولار، فاضطر المصنع الألماني للإغلاق لأن هناك منتج ياباني جديد أرخص، لكن المصنع الياباني بعدها رفع السعر، واضطر الجميع الشراء بالمبلغ العالي.