ضربة مزدوجة في الرأس تلقتها حركة «حماس» في فترة زمنية قصيرة، الأولى استشهاد الرجل الأول إسماعيل هنيّة، والثانية استشهاد يحيى السنوار الذي خلفه في الموقع.
الاثنان يمثلان النسق الثاني في المنظومة القيادية لـ»حماس»، حيث استشهد أهم رجالات النسق الأول، وعلى رأسهم المؤسس والموحّد الشيخ أحمد ياسين.
بعد غياب رجالات هذا النسق، كانت الحركة في حالة صعود تجاوزت بها غياب كبارها، ولوحظ أن الحركة الإسلامية لم تعانِ من فراغ قيادي، ما أدى إلى تعويض الغائبين بحضور لرجال كانوا أقوى وأكثر فاعلية، إذ وصلت الحركة إلى حد التنافس على الزعامة الفلسطينية بإجمالها، من خلال نفوذٍ متنامٍ في الوطن والشتات ونازعت «فتح» على شعبيتها المتكرسة، إذ فازت عليها في الانتخابات التشريعية، وانقلبت على سلطتها في غزة لتشكل أول نظام سياسي إخواني في المنطقة.
ولقد توفر للحركة دعم سياسي ومالي وتحالفي مؤثر وفعّال، إذ لم تكتفِ بترسيخ نظام حكمها في غزة سياسياً وإدارياً وأمنياً، بل أسست بنية تحتية لمقاومة عسكرية أنتجت بعد حروب متعددة زلزال السابع من أكتوبر 2023، الذي وضع المنطقة كلها في حالة اشتعال دائمٍ نافس في تأثيره الإقليمي والدولي الاشتعال الأوروبي الذي مركزه أوكرانيا.
منذ السابع من أكتوبر، وعلى مدى سنة وأحد عشر يوماً، سطع نجم يحيى السنوار، منظم ومنفذ «طوفان الأقصى»، وقائد معركة التصدي للحرب الانتقامية التي أطلقتها إسرائيل تحت مسمى «السيوف الحديدة»، وعلى مدى فصول الحرب كان السنوار وفق التراتبية التنظيمية في «حماس» يحتل المرتبة الثانية، إلا أنه في الواقع كان من حيث الفاعلية ودرجة التأثير على القرار في المقام الأول، وبعد اغتيال هنيّة وظهور تنافس داخلي حادٍ على خلافته، كان السنوار هو الحل، فانتخب زعيماً للحركة حيث تكرّس رسمياً قائداً سياسياً مركزياً وميدانياً.
غياب السنوار بالاستشهاد وهو في قلب المعركة اختلف كثيراً في تأثيره عن غياب أسلافه من النسق الأول، ما يجعل من تعويضه وملء الفراغ الذي يخلفه وراءه أمراً في غاية الصعوبة، إذ غاب القائد الميداني والسياسي في الوقت الذي فيه غزة محتلة وتحت النار، ومحاصرة بالمطلق بحث لم يعد متنفسها الوحيد يعمل، أمّا محيطها التحالفي على الجبهة الشمالية وما وراءها فيواجه دعوات جدية لفك الارتباط معها، ما يعرضها لحالة ممن الاستفراد الإسرائيلي بها، ذلك مع تناقص أو توقف الدعم المالي، وتراجع الدعم الإيراني، وكل ذلك يبدو ثانوياً أمام واقع غزة المأساوي، حيث الدمار الشامل والموت اليومي الذي بلغ نحو خمسين ألفاً ولا يزال النزف مستمراً وإلى أجل غير مسمى.
كان السنوار ممسكاً بخيوط اللعبة بقبضة من حديد لا أحد في الخارج يجتهد بما لا يرضيه، وقيادته لمعركة الداخل المعقدة تميزت بكفاءة عالية إلا أنها خلت من معظم الرفاق المساعدين، ولا أحد يعرف مدى كفاءة النسق الثالث الذي لم يُختبر بعد، ولا يعرف مَن الرجل المركزي الذي سيقوده وهل هو بكفاءة وتجربة يحيى السنوار؟
المكابرة الفلسطينية مألوفة في حال غياب كل قائد في مسيرتهم الراشحة بالدم والمكتظة بفقد القادة اغتيالاً أو في غمار الحروب التي لم تتوقف، وفي الحالة الفلسطينية المكابِرة يبدو نادراً الموت الطبيعي للقادة، بل قليل ويكاد لا يذكر، وفي ثوراتهم فكل من تكرس قائداً سقط في أرض المعركة سياسياً كان أم إعلامياً أم محارباً، ووفق الأدبيات الفلسطينية في زمن القضية والثورة والمقاومة، فإن المكابرة بإنكار التأثير الفادح لغياب القادة هي حاجة تعبوية لإبعاد شبح اليأس والانكسار عن المحاربين وحاضناتهم الشعبية، غير أن ذلك على أهميته وأساسيته لا يلغي حقيقة التأثير السلبي لغياب القادة الكبار المجربين والمميزين، غير أن هذا التأثير ومهما تعاظم يظل غير حاسم في فاعليته السلبية، أمام اليقين المتعمق والمتجدد في نفوس الفلسطينيين بأن لا حياة مع اليأس والاستسلام، وهذا ما أبقى القضية العادلة على قيد الحياة عقوداً طويلة من الزمن، حفلت بقوافل الشهداء من مختلف المراتب وستبقى.
غياب السنوار موجع ومؤثر، ولكن الحياة تمضي في مساراتها، وحياة الفلسطينيين مقترنة بحلم أقوى من الحقيقة هو حتمية بلوغ الحرية والاستقلال مهما كان الثمن.