في 15/16 حزيران الجاري، نظمت الحركة العالمية للشعر مؤتمرا تضامنيا مع الشعب الفلسطيني تحت شعار “فلسطين في قلب العالم”، شارك في المؤتمر الذي افتتحه الشاعر الكولومبي فرناندو روندون دبلوماسيون وشخصيات سياسية بارزة ووزراء ثقافة من عدد من دول أميركا اللاتينية، ونشطاء عالميون مدافعون عن حقوق الإنسان، وشعراء من كافة مناطق العالم. فيما يلي أرفق مداخلتي في اليوم الأول للمؤتمر:
الشعراءُ لا يقودونَ العَالمَ لكنَّهمْ يُسمّونَ الأشياءَ… لهذا ائتَمَنتهُمْ البشريةُ، دونَ غيرِهِم، على مخيّلَتِهَا المدهشةِ وأحلامِ الناسِ وحِراسةِ ينابيعِ الحياةِ الصافيةِ وذاكرة الأرض، وهذا ما تفعلونَهُ الآنَ عندَمَا تضعونَ فلسطينَ (قلبَ العالمِ)، كما أشار بدقة شعار مؤتمركم، في قلوبِكم.
تتعرّضُ البشريةُ بينَ حقبةٍ وأخرى إلى اختبارِ إنسانيّتِها، وفلسطينُ الآن هي اختبارُ البشرية، اختبارُها الطويلُ الذي لم يبدَأْ في السابعِ من أكتوبرَ من العامِ الماضي، ولم يبدأْ معَ النكبةِ في العام 48 من القرن الماضي، فقد بدأ قبلَ ذلك بكثيرٍ في النزعة الاستعماريةِ وثقافتها الاستشراقيةِ، العقليةِ التي أنتجتْ حروبَ القرنِ العشرينَ المُرعِبةَ وغذّتهَا.
العقليةُ التي أقصتِ الفكرَ الإنسانيَّ وبررتِ الاستعبادَ والإبادةَ، وما زالَ العالمُ يُنظّفُ نفسهُ من تبعاتِها. العقليةُ التي منحتْ فلسطينَ للحركةِ الصهيونيةِ، بكلِّ ما تعنيهِ هذه الفكرةُ العنصريةُ من وحشيةٍ وما تنطويْ عليهِ من تفويضٍ بالإبادةِ وحكمٍ بالقتلِ والتشريدِ والتدميرِ، والاستيلاءِ ليس على الأرضِ الفلسطينيةِ فقط، وإنما على جهدِ الفلسطينيينَ الحضاري ومنجزهِم الذي راكموهُ عبرَ قرونٍ طويلةٍ، المدنِ والموانئِ والطرقِ والزراعةِ والمراكزِ الثقافيةِ والمكتباتِ والبيوتِ… والاستيلاء على كلّ شيءٍ من الأسماءِ إلى أطباقِ طعامِ الجداتِ في مطابخِ القرى إلى النقوشِ على ثيابِ الفلاحاتِ.
كانت الفكرةُ تفويضاً استشراقياً مفتوحاً بإطلاقِ النارِ على شَعبٍ كاملٍ. تفويضٌ نشهدُ أحدَ أكثرِ فُصولِهِ دَمويةً في غزةَ.
هذا ما يحدثُ منذُ أكثرَ مِن عشرةِ عقودٍ سابقةٍ على السابعِ من أكتوبرَ في فلسطينَ.
هذا ما تفعلهُ إسرائيلُ.. قتلُ الناسِ، منذُ أن كانَ جيشُها مجموعةً منَ العصاباتِ المسلّحةِ تحتَ رعايةِ المستعمِرِ البريطانيِّ وحتى تجميعِهِ تحتَ مسمى جيشٍ، واصلَ الاحتفاظَ بروحِ العصابةِ الممتلئةِ بفكرةِ “قتلِ الناسِ” وواصلَ قادتهُ تحريضَ هذهِ النزعةِ وتطويرَهَا وواصلَ الغربُ الاستعماريُّ تغذيتهُ بالسلاحِ والحمايةِ، في محاولةٍ لم تتوقفْ لتكرار حملاتِ الإبادةِ على الشعوبِ الأصليةِ العظيمةِ وحضارتِها المدهشةِ في العالمِ الجديدِ.
تحتَ سطحِ الصراعِ الدمويِّ في فلسطينَ يكمنُ جوهرُ المواجهةِ العميقُ بينَ هُويةِ الفلسطينيين النابعةِ من مُحصلةِ طبقاتٍ حضاريةٍ تمتدُ عشراتِ القرونِ وتنطوي على تنوعٍّ وتعدديةٍ وانفتاح وتمازجٍ حضاريّ وثقافيّ، وبين هويةِ الصهيونيةِ العنصريةِ القائمةِ على الإقصاءِ والانتقاءِ والنفيِّ والتفوقِ العرقيِّ.
لا تحدثُ الإبادةُ في غزةَ المحاصرةِ على ساحلِ المتوسطِ فقطْ، فهي موجودةٌ بقوةٍ في الضفةِ الغربيةِ المحاصرةِ بينَ جدارِ الفصلِ العنصريِّ وجيشِ الاحتلالِ ووحشيةِ عصاباتِ المستوطنينَ الفاشيةِ المنفلتةِ، التي تهاجمُ القرى ومخيماتِ اللاجئينَ والمدنَ وتحرقُ البيوتَ وتطلق النارَ على النوافذ والناسِ والأشجارِ وتستولي على الأرض، بينما يسوقُ جيشُ الاحتلالِ – في مهمةٍ يوميةٍ – آلافَ الفلسطينيينَ نحوَ معسكراتِ الاعتقالِ والتعذيبِ والإخفاءِ. وهي، الإبادةُ، موجودةُ في الشتاتِ حيث يعيشُ ستةُ ملايينِ لاجئٍ فلسطينيٍّ في المخيماتِ والمهاجرِ ومراكزِ الإيواءِ بعيداً عن وطنِهِم وبيوتهِم ومستقبلهم، وتتواصلُ داخلَ إسرائيلَ نفسِها، حيثُ يعيشُ أكثرُ من مليونٍ ونصفِ مليونِ فلسطينيٍّ يشكلونَ أكثرَ من 21% من سكانِ إسرائيلَ، لاجئينَ في وطنهِم ومواطنِينَ مِنَ الدرجةِ الثالثةِ، وحيثُ يحدقُّ في العالمِ آلاف المعتقلينَ والسجناءِ الفلسطينيين عبرَ الأسيجةِ الشائكةِ في معسكراتِ الاعتقالِ والزنازينَ وغرفِ التعذيبِ.
يقاومُ الفلسطينيونَ بالعنادِ والأملِ في مناطقِ وجودِهِم كافةً منذُ أكثرَ من مئةِ عامٍ آخرَ استعمارٍ على الأرضِ، ويواجهونَ خلاصةَ ثقافةَ الهيمنةِ والتفوقِ العرقيِّ التي أعادتْ تدويرَ نظرياتِها العنصريةِ.
كانت الفكرةُ التي تقفُ خلفَ القتلِ ومواصلةِ القتلِ هي فكرةُ القاتلِ التقليديةِ، إخفاءُ الجريمةِ وتغطيتها بخدائعِ التنويرِ والحضارةِ والغيبياتِ، لكنها هنا تحاولُ إدانةَ القتيلِ والنومَ في سريرِ الضحيةِ وسرقةِ صيحتهِ.
وهيَ في سعيِهِا المتوحشِ تذهبُ نحوَ زراعةِ اليأسِ في قلوبِ الفلسطينيينَ: “لا إخوةَ لكم… أنتم وحدَكم”، هذا ما تقوله
ولكننا الآن يمكننا أن نشيرَ إلى إخوتِنا في كل مكان، فهم:
طلابُ الجامعاتِ في ثورتهم على مساحةِ العالمِ، اليهودُ الشجعانُ المتحررون من الصهيونية يقولونَ نحن أشقاؤُكم، الشعراءُ والفنانونَ الذين يطلقونَ الشعرَ والموسيقى والألوان في فضاءِ العالمِ إخوتنا، الناسُ البسطاءُ، العمالُ والفلاحونَ ورباتُ البيوتِ والمتقاعدونَ الذينَ يجوبونَ شوارعَ العالمِ دونَ توقفٍ إخوتُنا، السياسيون الشجعانُ والقادةُ الذين لم تفسدهُم السياسةُ… إخوتُنا، أنتم إخوتُنا.