تعيش الضفة الغربية المحتلة واحدة من أكثر الفترات حساسية في تاريخها الحديث؛ حيث يتشابك الاستيطان الإسرائيلي المتسارع مع التصعيد العسكري المتواصل، ما يهدد بشكل مباشر مستقبل المشروع الوطني الفلسطيني وحلّ الدولتين. في ظل هذا الواقع، تبرز مجموعة من التحديات المعقدة التي تجعل الضفة الغربية ساحة مفتوحة للنزاع والتحولات الكبيرة.
يعد الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية أحد أكبر التحديات التي تواجه الشعب الفلسطيني اليوم. توسع المستوطنات وتكاثر البؤر الاستيطانية الجديدة ليسا مجرد تحركات عشوائية، بل جزء من إستراتيجية مدروسة تهدف إلى فرض واقع ديموغرافي وجغرافي جديد يصعب تغييره في المستقبل. هذه السياسة تقوض الأسس التي يرتكز عليها مبدأ حل الدولتين، وتجعل من إقامة دولة فلسطينية مستقلة أمراً يبدو بعيد المنال.
وفقاً للبيانات المتاحة، يسيطر المستوطنون الإسرائيليون اليوم على حوالى 40% من أراضي الضفة الغربية، وترتفع هذه النسبة إلى 68% في المنطقة «ج»، التي تحتوي على غالبية الموارد الطبيعية الفلسطينية مثل المياه والغابات والأراضي الزراعية. عدد المستوطنين يتجاوز 500 ألف في المستوطنات المعترف بها إسرائيلياً، ويصل العدد إلى 720 ألفاً عند إضافة المستوطنات غير المعترف بها رسمياً. في المقابل، يبلغ عدد الفلسطينيين في الضفة حوالى 3.5 مليون، ما يعني أنه مقابل خمسة فلسطينيين هناك مستوطن إسرائيلي، وهي نسبة تسعى إسرائيل إلى تعديلها لتصبح مستوطناً واحداً لكل ثلاثة فلسطينيين، ثم في مرحلة لاحقة تصبح مستوطناً لكل فلسطيني.
واحدة من أكثر النقاط المثيرة للقلق في هذا السياق هي الفجوة الديموغرافية بين الفلسطينيين والمستوطنين. فبينما ينخفض معدل الإنجاب للمرأة الفلسطينية في الضفة الغربية إلى 3 مواليد، يرتفع معدل الإنجاب للمستوطنة الإسرائيلية في الأراضي المحتلة إلى 7.3 مولود. هذه الفجوة تعزز من زيادة أعداد المستوطنين بشكل أسرع بكثير من السكان الفلسطينيين الأصليين، وتساعد إسرائيل على تنفيذ خطتها الهادفة إلى تغيير طبيعة الصراع من احتلال لأرض فلسطينية إلى نزاع بين سكان محليين، ما يضفي شرعية مزعومة على مطالبها بفرض السيادة على كامل الضفة الغربية.
الحكومة الإسرائيلية الحالية، المدفوعة بأيديولوجيات يمينية متطرفة، تعتبر التوسع الاستيطاني مهمة دينية مقدسة، وترى في الضفة الغربية أرضاً مقدسة يجب أن يسكنها اليهود فقط. هذا الاعتقاد يحظى بدعم واسع من أقطاب اليمين الإسرائيلي، ويؤدي إلى إنشاء المزيد من البؤر الاستيطانية الجديدة، التي تحظى بالحماية العسكرية وتلقى دعماً حكومياً كبيراً.
إلى جانب توسع الاستيطان، تشهد الضفة الغربية تصعيداً عسكرياً إسرائيلياً متواصلاً، حيث تشن إسرائيل عمليات عسكرية مكثفة تهدف إلى ضرب المقاومة الفلسطينية واحتواء أي تحركات قد تعيق خطط الاستيطان. منذ بداية العام 2022، أطلقت إسرائيل سلسلة من العمليات العسكرية في الضفة، أبرزها عملية «كاسر الأمواج» التي استهدفت جنين وانتشرت في أنحاء الضفة، بهدف منع هجمات المقاومة وتقويض قوتها.
تصعيد اليوم يأتي في إطار عملية جديدة أطلقتها إسرائيل تحت مسمى «مخيمات الصيف»، والتي تعد الأكبر منذ العام 2002 خلال عملية «السور الواقي». هذه العملية ليست سوى حلقة في سلسلة التصعيدات التي تسعى إسرائيل من خلالها إلى تحييد المقاومة في الضفة، وتأمين المستوطنات المتزايدة.
في ظل هذا التصعيد، تواجه السلطة الوطنية الفلسطينية ضغوطاً متزايدة؛ فهي، من جهة، تسعى للحفاظ على وجودها واستمراريتها، ومن جهة أخرى تجد نفسها عاجزة عن التصدي لسياسة الاستيطان والتوسع الإسرائيلي. انعدام إستراتيجية فلسطينية مضادة للاستيطان يجعل السلطة رهينة للضغوط الداخلية والخارجية، حيث تزداد التحديات يوماً بعد يوم مع تزايد الاعتداءات الإسرائيلية وتصاعد الغضب الشعبي.
مع استمرار هذه التحديات، يبقى السؤال الأكبر مطروحاً: إلى أين تتجه الضفة الغربية؟ هل ستتمكن السلطة الفلسطينية من الصمود في وجه التحديات المتزايدة، أم أن إسرائيل ستنجح في فرض سيطرتها الكاملة على الأرض وتغيير طبيعة الصراع بشكل نهائي؟
في ظل غياب تدخل دولي جدي لوقف التوسع الاستيطاني وفرض حل الدولتين، يبدو أن الضفة الغربية تسير نحو مرحلة جديدة من التصعيد، قد تؤدي إلى تغييرات جذرية في المشهد السياسي والجغرافي للمنطقة. الوقت وحده سيكشف ملامح المستقبل، لكن الواضح أن الوضع في الضفة الغربية يحتاج إلى تدخل عاجل، قبل أن يصبح الحل مستحيلاً.