العالم بعد الحرب في أوكرانيا..منير شفيق

إن قراءة أولية للحرب الدائرة في أوكرانيا، قبل أن تبين نتائجها، تسمح ولو بمخاطرة بأن تتوقع عالم ما بعد هذه الحرب، وذلك بما هو أبعد من نتائجها على أوكرانيا. فهي حرب من حيث الشكل الظاهري بين روسيا وأوكرانيا، ولكنها في الجوهر هي حرب عالمية بين روسيا وأمريكا، مع امتداد روسيا صينياً، وامتداد أمريكا بريطانياً- أوروبياً.

صحيح أن انخراط أمريكا وأوروبا في الحرب إلى جانب أوكرانيا لم يتخذ سمة مشاركة عسكرية مباشرة، ولكنها مشاركة عسكرية أو شبه عسكرية. وذلك عندما تصل العقوبات الاقتصادية ضد روسيا إلى ما وصلت إليه، وقد اعتبرها بوتين بأنها إعلان حرب عملياً. ويمكن أن يضاف إليها ما راح يتدفق على أوكرانيا من أسلحة ومتطوعين، فضلاً عن الحملة الإعلامية والسياسية الشعواء على روسيا، وبوتين شخصياً، وقد وصلت إلى حد التهديد بمحاكمته كمجرم حرب، وفرض عزلة دولية عليه.

وصحيح أن انخراط الصين إلى جانب روسيا لم يتخذ شكل دعم عسكري، ولا حتى سياسي (بالكامل)، ولكن يكفي أن يكون دعماً مالياً واقتصادياً، مع رفض الإدانة، كما تطلبها أمريكا، لتعتبر الصين إلى جانب روسيا في الحرب، وتلوّح باتخاذ إجراءات وإنزال عقوبات ضدها.

هذا وذاك يؤكدان أن الحرب في أوكرانيا هي حرب عالمية في الجوهر، وستؤثر نتائجها في تشكّل العالم من بعدها.

لنفترض بأن هذه الحرب، مع تصعيدها عسكرياً، دون الوصول إلى الحرب الكونية الثالثة التي تطلق فيها القنابل النووية، سواء أكان بحجم واسع أم محدود، أم بمستوى شامل أو جزئي. أي لنفترض بأن هذه الحرب ستنتهي باتفاق روسي- أوكراني، وقد لبت المطالب الروسية الأساسية، وهي حياد أوكرانيا، وعدم تسلحها بما يهدّد الأمن القومي الروسي، وبالتفاهم داخلياً على إحياء اتفاق مينسك، أو مينسك 2، وهو ما يعتبر كانتصار لروسيا.. على أن هذه الخاتمة للحرب تعني وقفها، كما هي دائرة الآن، ولكن مع استمرار امتداداتها لا سيما العقوبات، وما تكرسّ من توتر في العلاقات الروسية- الأمريكية والأوروبية، كما الصينية- الأمريكية.

أمريكا كانت وراء مساعي ضمّ أوكرانيا للناتو، والأهم كانت وراء ما حدث من انقلاب في 2014 في كييف، وتشكّل نظام معادٍ لروسيا، وما نجم عن ذلك من انقسام أوكراني- أوكراني: غرب وشرق. وأمريكا هي التي أوصلت الوضع الجديد في أوكرانيا إلى تهديد خطير للأمن القومي الروسي، ومن ثم إجبار بوتين على شنّ الحرب في 24 شباط/ فبراير 2022 على أوكرانيا. وقد اهتبلت أمريكا هذه الحرب لتطلق أشد عقوبات على روسيا، وتسعى لفرض عزلة دولية عليها، مع توريطها في حرب تستنزفها مع الجيش الأوكراني الذي سلحته بالمضادات المتطورة للطيران والدبابات، وأمنت له كل دعم للمضيّ في الحرب إلى أبعد مدى.

لهذا عندما تنتهي الحرب وفقاً للتصوّر أعلاه، ستواصل أمريكا حربها الاقتصادية والسياسية والإعلامية ضد روسيا، وامتدادها ضد الصين، الأمر الذي سيدفع روسيا والصين لإيجاد عالم اقتصادي خارج عالم الدولار والسويفت؛ عالم العقوبات. وقد أخذ هذا العالم الاقتصادي- السياسي يتشكل أثناء الحرب في أوكرانيا.

معظم دول العالم لم تعد تحتمل الاحتكار الذي يمارسه الدولار على التجارة والتبادل العالمي، فثمة دول كثيرة لم تعد تحتمل ما راحت أمريكا تمارسه من عقوبات اقتصادية، تؤدي إلى تجويع الشعب وخراب الاقتصاد. فالنظام العالمي الذي يقوم على السيطرة الأمريكية في احتكار التعامل بالدولار والتحكم بالسويفت العالمي؛ أدى إلى نهب أمريكي للثروات العالمية مقابل طباعة الدولار، وأدى إلى تحوّل أمريكا إلى شرطي العالم الذي يتهدّد أيّة دولة، بفرض الحصار المالي عليها، ومقاطعتها من جانب الشركات والدول، مما يوجب أن يُبحث عن نظام عالمي موازٍ، إذا لم يكن من الممكن إقامة نظام عالمي بديل.. وذلك لتحقيق درجة من العدل النسبي، ولتخفيف درجة أو أكثر من الظلم العالمي.

هذا الدور أخذ يفرض نفسه في أثناء حرب أوكرانيا، ولا سيما عندما انتقلت أمريكا لتهديد الصين أيضاً بالعقوبات، إذا ما استمرت بمساعدة روسيا اقتصادياً. وقد أخذت تبرز الآن بدائل للتعامل في التجارة الدولية، والتبادل الاقتصادي والمالي الدولي، بما في ذلك بالنسبة لبطاقات موازية للفيزا والماستركارد.

هذا النظام العالمي الاقتصادي الموازي الذي يخوض الحرب العالمية الآن من خلال روسيا والصين أثناء الحرب في أوكرانيا، مرشح لجعل العالم أمام نظامين اقتصاديين يحمي كل منهما قوى عسكرية موازية أيضاً؛ لأن ما من نظام اقتصادي في العالم يمكن أن يقوم إلاّ بحماية ميزان قوى عسكري. إذ ما من “دكان” في شارع يمكن أن يفتح ويمارس عملهي، إلاّ ويجب أن يكون هناك شرطي أو مسلح يحميه، فكيف بالنسبة لنظام اقتصادي عالمي؟ فما تمتعت به أمريكا من سيطرة احتكارية للدولار وللتبادلات المالية، جاء نتيجة انتصارها في الحرب العالمية الثانية، وإلقائها قنبلتيّ نجازاكي وهيروشيما، وخوضها حرب كوريا، وإزاحتها لبريطانيا من سدّة الزعامة العالمية..

ومن هنا فإن ما يمكن توقعه لميزان القوى الجديد، الذي سيتشكل في العالم على ضوء نتائج حرب أوكرانيا، هو نشوء سوق عالمية موازية، قد تفرض أمريكا قطيعة تامة عليها وضدها. كما سيفتح الباب لنشوء اقتصاد ثالث بينهما، يشق طريقه إلى العالمية بدوره.

خلاصة

إن من يدقق في السياسة الأمريكية التي تواجه الحرب في أوكرانيا، يلاحظ أنها تريدها حرباً طويلة الأمد، حتى تُهزم روسيا فيها. وذلك بغض النظر عما يمكن أن يدفعه شعب أوكرانيا من تكلفة باهظة جداً، لا مصلحة له منها أو فيها، ورئيسه في خدمة أمريكا التي أخذت تصعِّد ضد روسيا كأنها لا تريد هدنة، أو خط رجعة. وإلاّ ما معنى أن يَعتبر بايدن بوتين “مجرم حرب” غير الذهاب بالحرب ضد روسيا إلى آخر مدى؟ أي أن أمريكا ستواصل العقوبات والمحاصرة السياسية حتى بعد أن تضع الحرب أوزارها. ويبدو أن الحرب لن تتوقف إلاّ ضد رغبتها.

هذا يعني أن مرحلة عالم متعدّد القطبية أخذت بالانتقال، مع هذه السياسة الأمريكية، إلى مرحلة القطبية المتعادية. وقد تكون أشدّ نكراً من حالة معسكريّ الحرب الباردة، حيث ساد بينهما نوع من “الوفاق الدولي”. أي الانقسام إلى كتلتي أقطاب، بلا سعي للوفاق الدولي من جهة، وإلى تعدّد أقطاب إقليمية كبرى، قد تشكل موضوعياً حالة (أو حالات) ثالثة من جهة أخرى.