كثيراً من الكتاب والصحفيين كتبوا عن تصريحات الإعلامي المتميز والوزير “جورج قرداحي”، بعضهم وقف لجانبه وبعضهم هاجمه، رغم أن تصريحاته حول “اليمن” وما يحدث فيها منذ ستة سنوات وأكثر لا يُمكن إعتبارها جديدة أو فيها ما يتجاوز الخطوط الحمر، وكانت في سياق وجهة نظر شحصية لا أكثر، والرجل معروف بمواقفة الرافضة لما حدث في “سوريا” و”اليمن” وغيرها، بل هو أقرب في تفكيره من المحور الداعم لِ “سوريا” و “حزب الله”…القصة الأساسية ليست الشخص ولا تصريحاته، بل التجاذبات في الإقليم العربي وبالذات في مشرقه وطبيعة التحالفات القائمة منذ أكثر من ثلاثة عقود وتبلورها بعد الإنسحاب الإسرائيلي المُذل من “جنوب لبنان” عام 2000.
الغريب أنّ بعضاً من النخب العربية إن لم يكن كثيراً منهم، وبالذات الحاملة للفكر القومي واليساري تشطح في طرح البعد العربي القومي غير المتبلور أصلا والمندثر بسبب سياسات مرتبطة بطبيعة الصراع ضد الإمبريالية الأمريكية ورأس حربتها دولة “إسرائيل” من جهة، ومن جهة أخرى ترى البعد الطائفي وكأنه أساس الصراع القائم في الإقليم، مع العلم أن هذا البعد ليس سوى نتيجةً لما بعد تدمير “العراق” من قبل الغزو الأمريكي وبدعم من الكثير من الأنظمة العربية الرسمية.
مسألة أخرى تتعلق بواقع المشرق العربي “غرب آسيا” والذي يتميز بشعوبه مُتعدّدة الإثنية والدينية والمذهبية، بما يعززها ويُغنيها لو كانت هناك مواطنة حقة لشعوبها تعيش في دول ذات أنطمة سياسية قادرة على إستيعاب هذا التنوع في ظل تبادل للسلطة سلمي منتظم ودساتير يتم إحترام مضمونها وتؤسس لدولة ذات قوانين مدنية تحكم العلاقة بين مكونات الشعب، لكن ظهور أحزاب “الأسلمة السياسية” والتوحش الإمبريالي الأمريكي الداعم للإحتلال الإسرائيلي أولا والمتوجه للسيطرة على مقدرات المنطقة من طاقة “بترول وغاز” وثروات معدنية وطرق تجارية مهمة في مواجهة المارد “الصيني” القادم بقوة، أدى لهذا الإستقطاب الحاد في محاور، والعرب للأسف كَ نظام رسمي أصبحوا تابعين لها ولا يُشكلون محوراً عربياً قومياً كما كان سابقا في عهد الراحل الخالد “جمال عبد الناصر” أو في عهد “جبهة الصمود والتصدي” وما بعدها من تنسيق “مصري وسوري وسعودي”…الواضح أن كل المعطيات القائمة تُشير لتبعية العرب الرسميين دون وجود الحد الأدنى من إستقلالية القرار، وقد عمل ما سُميَ زوراً وبهتاناً ب “الربيع العربي” على تعزيز ذلك نتيجة للخراب والدمار الهاءل الذي أصاب دول عربية مركزية ك “سوريا” و “العراق” في حين “مصر” إستطاعت إلى حد ما وقف الإنهيار ولكن دون عمق عربي يؤسس لأمن قومي شامل للعرب جميعاً، بل جاء بوعي الخوف من “الإخوان المسلمين” الطارحين أنفسهم البديل القادم والقادر على تعزيز التحالف مع الإمبريالية الأمريكية والغرب عموما ووفقا لنموذج “أردوغان” في تركيا.
المذهبية والطائفية كانت وستبقى صناعة غربية بإمتياز لكنها تعززت وقويت بظهور أحزاب “سنية” و”شيعية” إعتمدت مرجعيات “دينية” تتجاوز المفهوم العروبي، وتصادمت هذه الأحزاب في مناطق وتحالفت في مواقع أخرى، فنرى مثلا حزب “الإصلاح” اليمني وهو حزب للإخوان المسلمين ضد “الحوثي” و”الإخوان” في سوريا ضد الدولة السورية ، في حين نرى تنسيق وتحالف من بعض الإخوان المسلمين وبالذات “حماس” مع المحور “الإيراني” والذي يتم تبريره بمسمى “المقاومة” والدعم العسكري “الإيراني” لكتائب “عز الدين القسام”، بالطبع النظام العربي الرسمي وبالذات “الخليجي” كان موقفه يتذبذب بين دعم هنا ومواجهة هناك، فَ “إخوان” اليمن وسوريا تلقوا الدعم الكامل من الكل “الخليجي”، لكن بقية الإخوان تلقوا دعم “قطري” بالأساس، وكل ذلك يأتي في سياق الصراع القائم والمرتبط بالتوجهات الإستعمارية للإمبريالية الأمريكية وربيبتها المدللة “إسرائيل”.
الحقيقة هو أن الصراع في منطقتنا أساسه إقتصادي وسياسي مرتبط بطبيعة التحالفات الإقليمية والدولية التي تتشكل منذ أكثر من عقد من الزمن في مواجهة “الفردانية” الأمريكية المتوحشة والتي أدت لدمار شامل في منطقة “غرب آسيا” في محاولة لمنع تشكل تحالف “أوراسي” تقوده “الصين” عبر خطة “حزام واحد وطريق واحد”، ومن الجانب الآخر تقسيم وتدمير يصب في مصلحة تقوية “إسرائيل” كدولة مركزية متقدمة جاذبة وحامية للأنظمة السياسية القائمة وللمشروع الأمريكي الغربي كأساس،والنتيجة، إستغلال الطائفية والمذهبية لخدمة المشاريع القائمة هنا وهناك، والصراع في “اليمن” يأتي في هذا السياق حيث يعاني شعبه وأطفاله من مجاعة وحصار ووضع إنساني لا يُطاق يدفع ثمن غالي جدا كشعب وأرض وحياة، طبعا سوريا ولبنان وليبيا والعراق والسودان…الخ، الكل يدفع أثمان هذا الصراع المتوحش الدموي الذي قادته أمريكا للسيطرة على الثروات الطبيعية لمنطقتنا ككل وأنتجت صراع طائفي ومذهبي لحرف الأنظار عن الهدف الرئيس ولتسهيل عملية التدمير الذاتية لتلك البلدان.
“قرداحي” العروبي التفكير الذي يرى في حرب اليمن بأنها “عبيثة” وهي “عبثية” ويرى في “الحوثي” بأنه يدافع عن نفسه، وهو كذلك، قال الواجب قوله، فكل مكون في المشرق العربي له الحق في أن يعيش بكرامة وحرية ويشارك بشكل كامل في النظام السياسي لأي دولة ووفقا لمفهوم المواطنة، وأي محاولة لسيطرة مكون على آخر ستفشل لاحقا أم عاجلا وستؤسس لصراعات بدل التوافقات، ف “الحوثي” جزء أصيل من شعب “اليمن”، و المسيحي الشرقي هو أساس لكل المشرق العربي وجذورنا كلها تأتي من هذا الأساس، أقصد، أن العلوية والشيعية والإسماعيلية والزيدية واليزيدية والأشورية والكردية والسنية، هي إما مسميات عرقية وإما مسميات مذهبية وإما مسميات دينية،تُغني المشرق ثقافيا وحضاريا، لكن حين يتم إستغلالها سياسيا تُصبح عبء على نفسها وعلى الكل وتؤدي بالضرورة إلى غياب مفهوم المواطنة ومفهوم الدولة، اي أنها تؤسس لتقسيم المُقسّم وفق رؤيا الإستعمار المتوحش الذي إنهزم في منطقتنا وسينهزم ويتراجع في قادم الأيام.
هم ونحن واحد لا إثنان، وربهم وربنا واحد لا إثنان، ولهم ولنا إما نبيٌّ واحد أو نبيُّ نعترف به ونُجلّه، لهم ولنا تاريخ واحد وحضارة واحدة، وسنعيش معاً أبد الدهر وحتى قيام “الديّنونة” شئنا أم أبينا، والصراع بين الحق والباطل نسبي بيننا، لكنه مُطلق في حالة الإستعمار الخارجي المتوحش، لذلك دعونا نبتعد بعض الشيء عن الفكر المتشرذم والفكر المشوه الكاذب والمنافق لصالح فكرة التشبيك بيننا والمواطنة للكل على أرضٍ لنا جميعا لا لهذا المذهب ولا لذاك، والهجوم على “قرداحي” شخصي ومُفتَعَل ومُعطاه عبثي.