(بي بي سي):
“انتهت حلول الأرض، والأمر متروك للسماء”؛ مقولة تبدو الأنسب لوصف “يوم التفكير والصلاة من أجل لبنان” المرتقب في الفاتيكان، غداً الخميس 1 يوليو/ تموز.
يخصص البابا فرنسيس يوماً كاملاً للتشاور مع قادة الكنائس المسيحية اللبنانية التابعة لسلطته مباشرة، مثل الموارنة، وتلك التابعة لسلطات روحية أخرى، مثل الأرثوذكس والإنجيليين.
اهتمام الفاتيكان بالشأن اللبناني ليس جديداً، إذ يعود ذلك لأسباب تاريخية أبرزها العلاقة المتينة بين روما وبطاركة الموارنة منذ قرون، إلى جانب تقاسم المسيحيين السلطات والإدارات العامة مناصفة مع المسلمين في البلاد، ما تعده الكنيسة “نموذجاً للتنوّع الديني في الشرق”.
يكتسب اللقاء أهمية، لأنه من المرات النادرة التي يجمع فيها البابا قيادات مسيحية من الكنائس الشرقية والغربية في مكان واحد لمناقشة اقتراحات لإنقاذ بلد ما. وكانت مدينة باري في جنوب إيطاليا استضافت لقاء صلاة من أجل الشرق الأوسط عام 2018، شمل كنائس المنطقة كافة.
السياسيون غير مدعوّين
يُعرف عن الساسة اللبنانيين حماسهم الدائم لزيارة الكرسي الرسولي في روما، والتقاط الصور مع البابا في مكتبه، برفقة زوجاتهم وعائلاتهم ومساعديهم، كنوع ربما من تأكيد المكانة أو الحظوة.
ومع الإعلان عن اللقاء من أجل لبنان في الفاتيكان، حاول بعض السياسيين حجز أماكن لهم، لكن الفاتيكان أصرّ على حصر الدعوات بالقادة الروحيين، بحسب الكاهن فادي ضو، مستشار مؤسسة “أديان”، والمتابع لشؤون الفاتيكان.
لن يشمل اللقاء قيادات روحية مسلمة لأن البابا سبق والتقى بالمرجعية الشيعية آية الله علي السيستاني حين زار العراق في مارس/ آذار، والتقى بشيخ الأزهر أحمد الطيب في مناسبات عدة. كذلك فإنّ التحضير لجمع ممثلين عن أديان مختلفة يتطلب ترتيبات بروتوكولية وإجرائية معقدة، في حين يكتسب اللقاء طابعاً عاجلاً.
وكانت الزيارة الأحدث لسياسي لبناني إلى الفاتيكان في أبريل/ نيسان الماضي، حين استضاف البابا رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، وتبادلا الهدايا، وقال الحريري إن “البابا سيزور لبنان بعد تشكيل حكومة”.
حكومةٌ كلّف الحريري بتأليفها في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، ولم ينجح في ذلك بعد، فيما يواصل البلد سقوطه نحو الهاوية، مع انهيار العملة وتدهور الأوضاع المعيشية وشحّ الوقود وفقدان أصناف كثيرة من الأدوية والمواد الغذائية ومخاوف من توقّف معامل الكهرباء عن العمل بالكامل.
هذه الملفات كلها كانت الحافز لتنظيم يوم خاص بلبنان في الفاتيكان، بعد اقتراح من بطريرك كيليكيا للأرمن الأرثوذكس آرام الأول كيشيشيان.
وفي إجابة على أسئلة بي بي سي نيوز عربي عبر البريد الالكتروني، يقول كيشيشيان: “لا أدعي أنني المبادر لعقد الاجتماع، ولكني ذكّرت بضرورته الطارئة. المعاناة من البؤس والفقر والقلق وعدم اليقين ليست مجرد كلمات ومفاهيم نظرية، بل هي حقائق وجودية في لبنان. شاركتُ قلقي مع الفاتيكان لأنه لطالما روج لقضية لبنان في المجتمع الدولي. أعتقد أن الفاتيكان بسلطته الأخلاقية وعلاقاته قد يلعب دوراً مهماً في تحدي القيادة السياسية اللبنانية لتحمل مسؤوليتها”.
لماذا لم يزر البابا لبنان؟
بعد زيارة البابا للعراق قبل أشهر، وخلال عودته إلى روما على متن الطائرة، وعد أمام الصحافيين بزيارة لبنان، لكنه لم يدرج الزيارة في جدوله لهذا العام.
بعض المتابعين لكواليس الكرسي الرسولي يرون أن الظرف لم يكن مهيئاً لزيارة مماثلة من الناحية اللوجستية، بسبب ظروف البلد، وكذلك لأن الفاتيكان لم يرد أن يعطي جائزة ترضية للسلطة السياسية.
يقول سفير لبنان لدى الفاتيكان فريد الخازن، إنّ “البابا لديه النية لزيارة لبنان بالفعل، ولكن جدول زياراته هذا العام سيقتصر على مؤتمر واحد يرعاه في المجر. وقد زار أمين سر الفاتيكان الكاردينال بيترو بارولين لبنان قبل مدة قصيرة، وهناك دعم مستمر وإن لم يعلن عنه في الإعلام، وقد يكون هناك زيارة في المستقبل”.
زار ثلاث باباوات لبنان، في مراحل تاريخية مختلفة، هم:
بولس السادس: توقف في مطار بيروت لخمسين دقيقة خلال رحلته إلى بومباي، عام 1964.
يوحنا بولس الثاني: زار لبنان عام 1997، لتقديم وثيقة إرشاد رسولي خاصة سميت “رجاء جديد من أجل لبنان”، وكانت أشبه برسالة أمل للشباب اللبناني بعد الحرب الأهلية. وبقيت كلماته تتردد على لسان اللبنانيين لسنوات إذ قال خلال الزيارة “لبنان أكثر من وطن إنه رسالة”.
بنديكتوس السادس عشر: زار لبنان عام 2012، لإطلاق الإرشاد الرسولي إلى أساقفة الشرق الأوسط، داعياً لحماية الحريات الدينية في المنطقة.
ماذا يتضمن برنامج اللقاء؟
من المرتقب أن يستقبل البابا رؤساء الكنائس المشاركة في اللقاء مساء الأربعاء في بيت القديسة مارتا، وهو نزل خاص بضيوف الفاتيكان، سيبقون فيه مدة ثلاثة أيام.
سيبدأ اليوم المخصص للبنان صباحاً بالصلاة، وإضاءة الشموع، ثم سينزوي المشاركون مع البابا خلف أبواب قاعة كلمنتين المغلقة، في القصر الرسولي، حيث سيتناقشون بعيداً عن الإعلام.
سيمتدّ اللقاء لثلاث جلسات، ويختتم بصلاة علنية في كاتدرائية القديس بطرس، بحضور السلك الدبلوماسي في الفاتيكان، والجالية اللبنانية في روما. تتضمن الصلاة نصوصاً عربية وسريانية وأرمنية وكلدانية تكريماً لتقاليد جميع المشاركين.
وقد أعدّ الفاتيكان شعاراً خاصاً لهذا اليوم، عليه صورة تمثال سيدة حريصا، أشهر مزارات مريم العذراء في لبنان، والذي يحظى برمزية لأن زواره يكونون عادة من أتباع كلّ الأديان والطوائف.
يشارك في اللقاء عن الكنائس الكاثوليكية البطريرك الماروني بشارة بطرس الراعي، بطريرك السريان الكاثوليك اغناطيوس يوسف يونان، بطريرك الروم الملكيين الكاثوليك يوسف العبسي، راعي الكنيسة الكلدانية في لبنان المطران ميشال قصارجي، النائب الرسولي لطائفة اللاتين في لبنان المطران سيزار أسايان. ولم يعلن الفاتيكان عن ممثل الأرمن الكاثوليك بعد، بسبب وفاة بطريرك الطائفة كريكور بيدروس قبل أسابيع.
ويشارك عن الكنائس الأرثوذكسية بطريرك انطاكيا للروم الأرثوذكس يوحنا العاشر اليازجي، البطريرك آرام الأول كيشيشيان كاثوليكوس الأرمن الأرثوذكس، بطريرك السريان الأرثوذكس اغناطيوس افرام الثاني.
وعن البروتستانت، يشارك رئيس المجمع الأعلى للطائفة الإنجيلية في سوريا ولبنان جوزيف قصاب.
وقال سكرتير المجلس البابوي لتعزيز الوحدة المسيحية بريان فاريل، في مؤتمر صحافي تحضيراً للقاء: “سيكون الاجتماع بين كبار قادة الكنائس الأرثوذكسية والكاثوليكية والبروتستانتية في لبنان لحظة شراكة مكثفة في مواجهة التحدي المشترك الكبير، والتغلب على أي رؤية حزبية من أجل بناء خير الجميع والحفاظ عليه”.
هل هناك خلاف بين الفاتيكان والكنيسة المارونية؟
رأى محللون في وسائل إعلام لبنانية إن تأجيل البابا فرنسيس زيارة لبنان، ناتج عن فتور في العلاقة بين الفاتيكان والكنيسة المارونية، على اعتبار أن فرنسيس “رفع لواء الإصلاح والمحاسبة” في الكنيسة حول العالم، والمؤسسات الكاثوليكية في لبنان لن تكون استثناءً.
ويرى بعضهم أن الموارنة – وهم أكبر طائفة مسيحية من حيث العدد في البلاد ويحظون بمنصب رئاسة الجمهورية – لم يعودوا ممراً إلزامياً للفاتيكان إلى لبنان، بعكس ما كانوا على مرّ التاريخ، إذ تربط البابا علاقات جيدة بالطوائف الأخرى أيضاً.
كذلك فإنّ النهج المتصلب لبعض الشخصيات الكنسية اللبنانية الناشطة على الساحة العامة، يتعارض مع نهج الانفتاح ومحاسبة الفاسدين الذي ينتهجه فرنسيس.
ينفي المتحدث باسم البطريركية المارونية في بكركي وليد غياض ذلك، ويقول لـبي بي سي نيوز عربي: “الأخطاء موجودة في كل العالم، والتقصير موجود، ولكن لا يمكن التعميم، هناك أفراد يستخدمون نفوذهم ويجب أن يحاسبوا والبطريرك (بشارة بطرس الراعي) يطالب بالإصلاح”.
ويرى غياض أن تصوير العلاقة بين الكنيسة المارونية وروما بطريقة سلبية غير واقعي، لأن الاجتماع في 1 يوليو/ تموز “سيشمل دراسة معمقة لطروح البطريرك بشارة الراعي حول عقد مؤتمر دولي للبنان برعاية الأمم المتحدة، وحول الحياد”.
وكانت اقتراحات البطريرك الراعي حول حياد لبنان للخروج من الأزمة الراهنة قد تسببت بجدل سياسي حاد، لأنها فهمت كتصعيد ضد حزب الله وحليفه الرئيس ميشال عون.
من جهته، يقول السفير فريد الخازن إن “العلاقة بين روما وبكركي عادية، إذا كان هناك مسألة تخص الكنيسة المارونية أو الكنائس الكاثوليكية فهذا الاجتماع ليس المكان لطرحها”.
ما الخطوات العملية المنتظرة؟
يتفق المتابعون للاجتماع المرتقب على أهميته، ولكنهم يقولون أيضاً إن نتائجه الملموسة لن تظهر بشكل مباشر.
ويوضح الكاهن فادي ضو، إن من الملفات الأساسية المطروحة ستكون مرتبطة بوضع الناس المعيشي، وسيخصص البابا جزءاً من كلمته العلنية في ختام اليوم لدعوة “الكنائس كي تكون قريبة من الشعب”.
ويرى ضو أنّ هناك “عتباً من البابا كرره علناً على بعض القيادات الكنسية في لبنان والشرق عموماً، لعدم اهتمامها بما يكفي بالوضع الاجتماعي للناس”.
ويقول ضو إن اللقاء سيتطرق لوضع المؤسسات التربوية والصحية التابعة للكنائس، لأنها باتت على حافة الانهيار. وكانت تلك المؤسسات قد تلقت ضربة قاسية في انفجار مرفأبيروت، ومنها بعض أكبر المستشفيات في العاصمة اللبنانية.
ويلفت إلى أنّ “30 بالمئة من الطلاب اللبنانيين يتلقون تعليمهم في مدارس تابعة للكنائس، وإذا انهارت سيخلف ذلك كارثة اجتماعية سواء لناحية التعليم أو لناحية معيشة أساتذة التعليم في القطاع الخاص”.
من جهته، يقول سفير لبنان لدى الفاتيكان، فريد الخازن، إن عناوين اللقاء الأساسية إنقاذية، وسيتبعها حركة في دوائر الفاتيكان الدبلوماسية للمساعدة، و”لكن لا أحد يمكن أن يحلّ مكان اللبنانيين في تحمّل مسؤولياتهم”.