جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
“لن ينتهي الفساد من العالم أو من الكون. طالما هناك بشر”. بهذه العبارة، يفتتح معظم المعنيون بمحاربة الفساد كلماتهم.
وبالفعل هي عبارة منطقية. فطالما وجد البشر وتصارعت المصالح والرغبات سيوجد الفساد.
ولكن مشكلة هذا العبارة أنها قد تجعل الناس يتعاملون مع الفساد باعتبارة أمراً عادياً وطبيعياً فيركنون إلى ذلك، ويتسامحون مع السلوكيات المرتبطة به. وهذه حقيقة. فكثيراً ما نسمع حديثاً “أنا إديته مبلغ علشان يخلص لي مصلحتي وإلا كنت حاقعد طول عمري دايخ”! أو “إدي له قرشين علشان تخلص”! أو “مش حاتخلص حاجتك من غير ما تدفع”.
الإشكالية أن من يستخدم هذه العبارات هم طالبو الخدمة ومن لهم أشغال لدى الجهات الحكومية الرسمية، لأن الموظف أو المسئول قد يخاف، وقد لا يطلب بشكل مباشر. والمأساة أن “الدفع” و”عرض الدفع” أصبح قناعة مترسخة لدي المواطن! فلو كان المبلغ المحدد ألف جنيه، فسيكون ألفين أو ثلاثة آلاف، لأنك مضطر أن تدفع، أو متطوع لتدفع حتى تنهي أشغالك.
اللوم هنا مُلقى على المواطن طالب الخدمة الذي أصبح “محللاً للفساد”. فالألف أو الألفان الإضافية هما استقطاع من دخل المواطن. كما أن الدولة خسرت تلك الأموال التي كان يمكن إنفاقها في استهلاك سلعة أو في شراء سهم أو في أي منافع اقتصادية مشروعة.
الإشكالية الثانية هي تحول تلك الممارسات إلى عُرف مجتمعي يقوّض كل جهد قانوني لإصلاحه. فتتوارى القوانين والتشريعات أمام سلوك مجتمعي أصبح له قوة القانون!
الإشكالية الثالثة هي ضياع الأصول وانخفاض قيمتها، لأن نسبة كبيرة من ممارسات الفساد والرشاوى ترتبط بتبادل الأصول أو تقييمها. فما لم تقم الدولة بتحديد قيمة الأصول وفق معايير واضحة وشفافة من المتوقع أن نشهد مزيداً من المخالفات في هذا المجال. لأن غالبية متلقي الرشاوى يستثمرونها في أصول: أراض، وعقارات بشكل أساسي. كما أن المبالغ المتحصلة في هذا القطاع كبيرة. وقيام الدولة بحساب قيمة الأصول وتحديدها وفق لوائح تنظيمية واضحة يضمن أن تدخل تلك الأموال خزانتها بدلاً من خزانة المرتشين. والدولة في أمسّ الحاجة لتلك الأموال المتسربة إلى جيوب المنتفعين من أجل النهوض بالتعليم والصحة والتشغيل.
الإشكالية الرابعة هي إمكانية نشوب احتراب مجتمعي. فليس كل فرد لديه ما يدفعه للحصول على خدمة أو تسريع وتيرة الحصول على خدمة. وعادة ما يكون هؤلاء من أصحاب الدخول الضعيفة أو من الطبقة الوسطى المتآكلة. ومن شأن هذا التمييز في الحصول على الخدمات- والناتج عن ممارسات فساد- أن يولد ضغينة وعنفاً بين من يستطيع ومن لا يستطيع أن يدفع.
إن التعايش النفسي مع الفساد والتسامح بشأن ممارساته ليصير أمراً طبيعياً عند الأفراد هو خطر ولو تدرون عظيم، لأنه يحول المجتمع إلى مجتمع فاسد! والدولة بمفردها لو وضعت قانوناً لكل فرد فيها لن تتمكن من اجتثاث تلك الآفة من جذورها طالما صارت عرفاً مجتمعياً ووسيلة “مقبولة” لتبادل المنافع والخدمات والسلع!
لذلك يجب ان تكون العبارة “لن ينتهي الفساد من العالم طالما صار عرفاً مجتمعياً وأصبح أقوى من القانون نفسه”!
فأن ينتصر المجتمع على قضاء حاجته وخدماته بالفساد لهو إعلان صريح بالحرب على نفسه!