كان غياب الموقف الرسمي لأمريكا، خلال المظاهرات التي لا تزال مستمرة في إسرائيل منذ حوالي أربعة أشهر، حاضراً بكثافة ومدوياً بحضوره الخفيّ، في نقاشات ومحاججات المؤيدين للإصلاح القضائي- كما يسميه الطرف الحكومي الذي يعجّ بالقوى الفاشنازيّة، أو الإنقلاب القضائي- كما يصفه منافسوهم. فجاء هذا الموقف على شكل جملة عرضية مقتضبة جداً للرئيس الأمريكي (بايدن) الذي صرح: “لا يمكنهم مواصلة هذا المسار وأعتقد أنني أفهمت موقفي” (بتاريخ 29. 3. 2023). وحديثه بصيغة الجمع: “لا يمكنهم” لم يكن موجهاً إلى الإسرائيليين وحدهم، بل إلى كل القوى- الأمريكيّة وعلى رأسها تلك التي دفعت ولا تزال لانتاج أسباب المظاهرات المعارضة والمؤيدة منها لما يجري في إسرائيل. كيف؟
منذ حوالي عقدين تقريباً، تحديداً منذ احتلال العراق وتدميره، بدأت أمريكا تستخدم نهج “الفوضى الخلاقة” (بدأ التفكير والعمل بهذا النهج منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين) ليتخذ أشكالاً متعددة لتدمير الدول، وإعادة هيكلتها في المستويات الاقتصادية، والسياسيّة، والاجتماعية والثقافيّة، لتجعلها تابعاً تاماً في الإستراتيجية الدمويّة الأمريكيّة.
تعتقد القوى التي عملت على بناء نهج “الفوضى الخلاقّة”— والتي تمثلت بوضوح صارخ في صلب نظام الرؤساء (بوش) الأب، و(بوش) الابن و(ترامب)، وأجزاء من سياسات الرؤساء الديموقراطيين— أن الدول التي غنمتها بعد انتصارها على الكتلة السوفياتية في نهاية الحرب العالميّة الثالثة، لم يتبقَ شرعيّة لوجودها، بل يجب تفكيكها وإعادة هيكلتها لتصبح مستودعاً للأهداف والمصالح الأمريكيّة. تستثمر هذه القوى من أي حدث حقيقيّ ما في دولة ما، لتستهدف الدولة برمتها لإعادة تكييفها لها. وقد بدأت بتحطيم القطاع العام في الدول الاشتراكية السابقة وبيع أصول تلك الدول للمافيات الماليّة المختلفة. ثم عملت على انسحاب الدولة من القطاع العام في دول الرفاه الاجتماعي الأوروبيّة والرأسمالية المختلفة.
تتخذ هذه القوى أشكالاً مختلفة لتدمير الدول، مثل الاحتلال المباشر كما فعلت في العراق؛ وتسليط الإرهابيين وشذّاذ الآفاق كما تفعل في سوريّة؛ وجعل الدولة تتفكك من ‘تلقاء نفسها’ كما يحدث في مصر والعديد من الدول التي تشبهها؛ وحصار اقتصادي كما تفعل في لبنان؛ وحروب داخليّة كما تفعل في اليمن؛ وتعديلات على قانون التقاعد كما يحدث في فرنسا منذ سنتين؛ ومواجهة عسكرية كما تفعل بأوكرانيا ضدّ روسيا؛ وسباق تسلح كما تفعل بفنلندا والسويد ضدّ روسيا… والقائمة طويلة؛ ليس آخرها الانقلاب القضائي الجاري في إسرائيل الآن، والذي تنظرّ له، وتموله قوى أمريكيّة تتقاطع معها القوى التي تشكل الحكومة الإسرائيلية الحاليّة، وليس وحدها فقط (…). ولا تألُ جهداً باستخدام أية أداة بدءاً من السلاح النووي مروراً بحركات (جورج سوروس) النسوية… ووصولاً إلى جمعيات رعاية المسنين التي تحثّ على تخفيض الانبعاث الحراري بإيقاف تشغيل مكيفات الحرارة في بيوت المسنين ساعات أطول من السابق!
تعتبر قوى الفوضى الأمريكيّة الخلاقةّ إسرائيلَ دولة كبقية الدول، لا تتمتع بايّة حصانة، لذا يتوجب هيكلتها في سياق المشروع الذي تعمل عليه منذ حوالي العقدين. ولهذا ‘استغلت’ وصول قوى اليمين والفاشنازية إلى السلطة في إسرائيل لتبدأ مشروعها بالإصلاحات/ الانقلاب في عمل الجهاز القضائي، لأن القائمين عليه حتى هذا اليوم عملوا على توسيع صلاحياته لتشمل كل القضايا السياسية والأمنية، على حساب العمل السياسيّ، “لقد اعتاد اليسار [الذين يعارضون الإصلاحات] على تصحيح السياسة من خلال المحكمة العليا، كما يشير البروفيسور (ماني ماوطنر) العميد السابق لكليّة الحقوق في جامعة (تل أبيب) : “إنه في الحقيقة لا يعمل”- ، (هآرتس 1. 3. 2023)- أما مؤيدي الانقلاب/ الإصلاحات فيريدون تقليص اختصاص جهاز القضاء وتحويله إلى جهاز سلطوي يخدم جماعات دون غيرها (ليس العرب وحدهم المستهدفين).
ينتمي (بايدن) إلى ما يسمى بالحرس القديم في نظام السلطات في أمريكا. أي أنه يعارض ويختلف أحياناً مع نهج “الفوضى الخلاّقة” وتحديداً في إسرائيل، التي قد تتعرض إلى اهتزازات من شأنها أن تضعفها وتؤثر سلباً على دورها الوظيفي في “الشرق الأوسط” و(العالم). ومن المؤكد أن موقفه ضد الإصلاحات أو الانقلاب القضائي جاء تعبيراً واضحاً وشديد اللهجة، بعد سلسلة من النقاشات والخلافات الخفيّة بين المعسكر الذي يدفع باتجاه “الفوضى الخلاقة” وبين الموقف الرسمي لأمريكا، التي تريد من إسرائيل أن تبقى دولة لا تطالها الفوضى الخلاقّة في هذه الظروف المضطربة التي تعمل بمجملها ضد مصلحة أمريكا وإسرائيل في الملفات الإقليمية- التقارب الروسي- الصيني- السوري- الإيراني- السعودي، والدوليّة- الحرب الروسيّة الأوكرانيّة. فإسرائيل في حسابات النتائج الأخيرة هي الخاسرة، بالنقاط على الأقل. لهذه الأسباب مجتمعة يجب أن تبقى مجاميع المستعمرين اليهود جماعة واحدة قدر الإمكان، لتكون الدولة قادرة على اتخاذ القرارات السريعة ضمن منظومة المصالح والأهداف الأمريكيّة. لذا حدد بايدن موقف أمريكا باختصار وصرامة بالقول “أعتقد أنني أفهمت موقفي”.
* * * *
سبق تصريح (بايدن) المذكورتصريحان لكل من وزير الحرب (يوآف جلانط)، و(نتنياهو). فقد قال (جلانط) في السادس والعشرين من شهر آذار الفائت: “[…] أقولها بصوت عالٍ وعلانية لأبنائنا وبناتنا، يجب وقف خطة الإصلاحات القضائية […]”. وفي اليوم نفسه، قام (نتنياهو) بإقالته من منصبه وزيراً للحرب والعدوان. وأصبح انتظار ردّ فعل (نتنياهو) على تصريح (جلانط) دراما، خاصة وأنه قال أنه سيتحدث إلى الإسرائيليين في اليوم الذي يليه، يوم الاثنين في السابع والعشرين من آذار في الساعة العاشرة صباحاً. إلا أنه لم يتمكن من الحديث إلى الإسرائيليين إلا في الساعة الثامنة ليلاً- وأعلن حينها عن قراره الرسمي بتأجيل تمرير “الإصلاحات القضائية”.
يختزن تصريح (جلانط) المذكور ويكثّف ويختزل كافة التجاذبات التي دارت بين مؤيدي ومعارضي ما يحدث في إسرائيل وأمريكا على حدّ سواء. فيمكن القول أن قوى الجيش، والأمن، والاستخبارات والباحثين المختلفين، بعد ان أدركت المخاطر المتوقعة والمحتملة على إسرائيل، قامت بتحميل (جلانط) رسالتها الواضحة دون لبس “يجب وقف خطة الإصلاحات القضائية”! تذكرنا رسالة (جلانط) الحاليّة بتلك الرسالة- وبالتحذير التي حمله وأعلنه في الحادي عشر من شهر تموز 2015 (مئير دجان) الرئيس الأسبق لجهاز “الموساد” (2002- 2011) في محاضرة له أمام ضباط سلاح الجوّ قائلاً فيه: إن الثنائي نتنياهو، (رئيس الحكومة)، وبراك (وزير الحرب والعدوان) قررا شنّ هجوم على إيران. وأضاف: إن الاثنين لا يدركان حجم المخاطر الناتجة من هذا الهجوم غير المحسوبة نتائجه، فمن المتوقع أن يتحول الهجوم إلى حرب إقليمية يشترك فيها (إلى جانب إيران) حزب الله وحماس وسورية، وأضاف محذراً: إن بإمكان إيران أن تمطر “إسرائيل” بالصواريخ لعدة أشهرّ! ويمكن القول إن تحذير دجان جاء بناء على مُهمة أرسلته إليها قوى “الأمن” والاستخبارات والدولة العميقة. لذا ردّ عليه نتنياهو بسحب جواز السفر الديبلوماسي منه (كما أشرت في مقالي: “كوخافي” في رسائله إلى الداخل: بِتنا في ورطة! نيسان 2020).
إن تدخل (الموساد) في قضيّة من صلب مهامه واختصاصه للحيلولة دون تورط إسرائيل في حرب خارجيّة، أمر مفهوم في الدولة- أما تدخله في الحياة السياسيّة الداخليّة للمستعمرين اليهود أنفسهم، فأمر بحاجة إلى وقفة لفهم عمق الأزمة التي تعيشها إسرائيل في ظل نظام القوى الفاشنازيّة. فقد كشفت صحيفة (الواشنطن بوست) في الثامن من نيسان الجاري عن تسرّب وثيقة من الـ(C.I.A) تؤكد تشجيع (الموساد) على تنظيم المظاهرات ضد الإنقلاب أو الإصلاحات القضائية. ما من أحد من العامة والخاصة في إسرائيل يعرف عدد المرات التي تدخل فيها (الموساد) في الحياة السياسيّة الداخليّة فيها. إلا أن تدخله الحالي يشير إلى أمرين اثنين: الأول- لم يعد الموساد يثق بقدرة المؤسسة السياسيّة، أي الحكومة في الدولة على مواصلة قيادة إسرائيل إلى برّ أمان معقول، لذا فإن تدخله من المتوقع أن يتكرر في المستقبل (للتوضيح: الحديث عن عدم ثقة المستوى العسكري بالمستوى السياسي في إسرائيل واضح. يمكن مراجعة كتاب- علاقة المستوى المدني والمستوى العسكري في إسرائيل: على خلفية صدامات عسكرية، تحرير: رام إيرِز أصدار مركز يافه للدراسات الإستراتيجية 2006، وقراءتي النقديّة له). والأمر الثاني- على ما يبدو صنّف (الموساد) القوى المؤيدة للانقلاب/ للإصلاحات القضائية كقوى معادية للدولة! سيكون لهذا الأمر تبعات في المستقبل على أبناء الطوائف الشرقيّة، الذين يشكلون وقود وحطب هذه الإصلاحات، وقد فقدوا الكثير من ديناميكيات محاولاتهم المستميتة للتحول إلى جزء مساوي للأشكناز، أي الحصول على حصتهم من فلسطين والدم العربي.
* * * *
في سياق كل من الموقفين، الأمريكي الذي عبّر عنه الرئيس (بايدن)، وموقف القوى الأمنيّة العسكرية الإسرائيلية الذي عبّر عنه الوزير (جلانط) جاء تصريح (نتنياهو) في السابع والعشرين من آذار الفائت، والقاضي بتأجيل سنّ القوانين حتى الصيف القادم (…). لذا يمكن القول أن تأجيل (نتنياهو) تصريحه للرأي العام مدة 10 ساعات، من العاشرة صباحاً إلى الثامنة مساءً من ذلك اليوم، كان الأكثر صعوبة وتحدياً في سنوات حكمه التي تبلغ حوالي 14 سنة. فخلال هذه الساعات تحدث معه مندوبي قوى عدة من المؤيدين والمعارضين لسياساته، من أمريكيين ويهود، إضافة إلى القوى التي تدعوه للتريث والبحث عن تسوية ما بالنسبة للإصلاحات التي يريدها. وعلى ما يبدو انتصر معارضوه، بسبب الموقف الأمريكي والأجهزة الأمنية والعسكريّة الإسرائيلية الواضح والصارم. بعيد ظهوره في وسائل الإعلام وتصريحه بتأجيل الإصلاحات القضائية، كتب محللون من قطاعي الإعلام والسياسة قائلين أنه ظهر ضعيفاً، ومرهقاً ومضطرباً، والأهم أنه ظهر مهزوماً. نعم- هزمته أمريكا الرسمية التي لا تريد لإسرائيل أن ‘تستقل’ ولو جزئيّاً في سياستها الخارجيّة. وما موقف الأجهزة العسكرية والأمنيّة الإسرائيليّة إلا جزء من مركبات الموقف الأمريكي. فـ(نتنياهو) السياسي والإداري الممتاز- كما كان يصفه مؤيدوه وخصومه- والذي يتعامل بعنف وعنجهيّة مع محيطه الإقليمي سقط عندما حاول تجاوز حدود المهام التي أوكلته بها أمريكا. و(نتنياهو) ‘الذكي’ يستوعب ما قاله له (بايدن) خلال محادثة هاتفيّة بينهما في الثاني والعشرين من شهر آذار الماضي. فقد قاله له بوضوح: نحن أصحاب الورشة، واليهود عمّالها وأنت مديرها، وعليك الالتزام بتعليماتنا!
تردد وسائل الإعلام الإسرائيلية، وتنقل عنها الأجنبيّة والعربيّة، إن (نتنياهو) يقع تحت تأثير زوجته (ساره) وابنه (يئير) وهو غير قادر على تجاوز ضغوطهما. هذه الإدعاءات ليست إلا خراريف رواد المقاهي الذين يجلسون على كراسٍ متهالكة ويفتون بكل القضايا الدوليّة وهم يفتّون ورق الشدّة. فـ(ساره) و(يئير) عبارة عن دمى في المشهد تحركهما قوى هما بأنفسهما لا يعرفانها. فعندما قررت على ما يبدو قطع خيوط تحريكهما- ‘ضبتهُم’ كما تشير مصادر إعلامية عدّة. كذلك- وعلى ما يبدو- قطعت أنفاس (نتنياهو). فأمريكا كُتلة براجماتيّة تمارس عملها وفقاً لمصالحها فقط دون مشاعر أو عواطف.
في نهاية الأمر تعتبرُ أمريكا كل الدول التي تدور في فلكها مجرد أدوات وتابعة لها. ومن يتعمق أكثر في الموقف الأمريكي الحاسم- كما عبّر عنه (بايدن)- يدرك أن أمريكا هي التي لا تعترف بـ”إرادة” الناخب اليهودي، وتخطط للانقلاب عليه، كما فعلت بالضبط مع “إرادة” الناخب العربي في سلطة رام الله سنة 2006!
كاتب فلسطيني