مرة أخرى يتم التأكيد وبما لا يدع أي مجال للشك لمن لا يزال يراهن على الإدارة الأمريكية، أن العدوان البربري على قطاع غزة هو أمريكي بإمتياز، فمن يرفض وقف إطلاق النار على الرغم من رسالة “لفت الإنتباه” المقدمة من الأمين العام للامم المتحدة السيد غوتيتريتش وفقا للمادة “99”، يوضح طبيعة وحقيقة الموقف الامريكي مما يحدث من إبادة لكل قطاع غزة.
الوضع في غزة هو إنهيار لكل شيء، لذلك إستخدمت المادة “99”، هذا ما قاله السيد غوتيريتش، فكان الفيتو الامريكي ردا وتأكيدا على أن الإنهيار الشامل لقطاع غزة هو الهدف، إنهيار الحياة وتدمير كل شيء وأي شيء قابل للحياة، وتحويل قطاع غزة لمنطقة منكوبة لا يمكن التعامل مع واقعها الإنساني الكارثي بهدف تهجير السكان أو فرض الإستسلام على المقاومة وبالذات “القسام”، كل ذلك مع علم إدارة بايدن ومؤسستها الأمنية والعسكرية بأن الأهداف الإسرائيلية المعلنة غير واقعية ولا يمكن تحقيقها، ومع ذلك تستخدم “فيتو” في لحظة أصبح مصير كل غزة هو “الإنهيار” بالمعنى الإنساني وبالمعنى البيئي وبالمعنى الصحي وبالمعنى الإقتصادي وبكل ما يؤسس لسبل العيش والحياة.
يتضح أن إدارة بايدن لا تعير أي إنتباه لا لرأي عام عالمي ولا أمريكي، ولا أي رأي عام يطالب بوقف المذبحة والإبادة، وكما يبدو هناك أجندات محددة في جعبة أمريكا وحلفاءها وبالذات البريطانيين وإسرائيل، يريدون تحقيقها حتى مع “إنهيار” قطاع غزة المحتوم نتيجة للوحشية والبربرية التي تمارسها “إسرائيل” في عدوانها على قطاع غزة.
هنا يتسائل الكثير لماذا هذا الفيتو؟ وامريكا تدعو إلى عدم إستهداف المدنيين، وإدخال المساعدات والدواء والوقود، لكنها تريد ذلك والعدوان مستمر، تريده وتحت عنوان منع “حماس” أن تشكل اي تهديد مستقبلي لإسرائيل، وهذا يشير إلى طبيعة الأهداف الأمريكية الحقيقية.
أمريكا لا تبالي حقيقة بالإنسان الفلسطيني لا المدني ولا المقاوم، وترى ان الاولوية تأتي أولا واخيرا لرجلها وقاعدتها في غرب آسيا، وحيث انه تم هزيمتها وإذلالها في السابع من أكتوبر من حيث الحدث ومن حيث حجم الأسرى والمحتجزين المدنيين، فكان لا بدّ من الإنتقام لدرجة الإبادة، ووضع شروط قاسية وغير واقعية اهمها محو حماس والقسام والمقاومة والإفراج عن الأسرى والمحتجزين المدنيين، وإضعاف غزة لجعلها غير قادرة على ان تهدد إسرائيل مستقبلا.
أعطت أمريكا وخلفها اوروبا المنافقة ضوء اخضر أول لعملية الإبادة، لكن بعد اكثر من شهر ونصف لم تحقق شيئا من اهدافها، فاضطرت للذهاب لهدنة نتيجة الضغط الكبير من الراي العام العالمي وضغط أهالي الأسرى والمحتجزين، ادت إلى تبادل بين المدنيين من الطرفين من النساء والأطفال، ثم اعطت ضوء اخضر ثاني لإستمرار الإبادة، وذلك تحت عنوان الضغط على القسام لكي يتنازل عن شروطه بما يتعلق بالأسرى اولا، ولكي تفرض شروط سياسية تتعلق بالحكم في قطاع غزة بعد العدوان، لكن شروط نتنياهو مختلفة وتتناقض مع ما تريده الولايات المتحدة الأمريكية، لذلك بدأ نقاش في الغرف المغلقة بين الجانبين، لم تتوصل حتى الآن الا لنتيجة واحدة وهي إستمرار العدوان والابادة، وتحت عنوان ان حماس لا تزال تُشكل تهديدا كبيرا على إسرائيل
الآن بدأت الأمور تتوضح وبدأ طبيعة الخلاف بين “إسرائيل الأمريكية” و “إسرائيل الصهيونية اليمينية التوراتية” تتكشف، على الرغم من التوافق العام بما يتعلق بالقسام والمقاومة وان لا تُشكل غزة تهديد لإسرائيل كجغرافيا…وفقا لذلك فلا بدّ ان نشير للفروقات بين إدارة بايدن التي تُشكل “إسرائيل الأمريكية” وبين “إسرائيل الصهيونية التوراتية” التي يمثلها “نتنياهو”، وهذا يتمثل في التالي:
أولا- الساعة الأمريكية لزمن إستمرار الإبادة تختلف، إدارة بايدن ترى أن الحد الادنى هو بين نهاية شهر كانون اول “ديسمبر” إلى منتصف شهر كانون ثاني “يناير”، وأن الحد الأقصى هو بداية شهر شباط “فبراير”، في حين “نتنياهو” لا يريد تحديد اي زمن وأن الإبادة لا بدّ أن تستمر حتى تحقيق اهدافها
ثانيا- واضح ان موقف “نتنياهو” بما يتعلق بزمن الإبادة ليس سوى مناورة لكي يستطيع القول انه رضخ لوقف إطلاق النار بسبب الضغوط الأمريكية التي منعته من تحقيق الإنتصار وتحقيق الاهداف، وبذلك يلوم امريكا أمام الرأي العام الإسرائيلي، ويهرب من اي مسؤوليه وبالذات امام تكتل اليمين الصهيوني التوراتي.
ثالثا- عندما نتحدث اعلاه عن وقف إطلاق النار فهنا نشير إلى أننا نقصد وقف مؤقت لإطلاق النار وليس دائم، لأن اي وقف دائم لإطلاق النار له شروط سياسية عند إدارة بايدن، في حين نتنياهو ولأهداف شخصية قبل أي شيء آخر يرفض من حيث المبدأ وقف إطلاق نار دائم.
رابعا- يتبين للأمريكي وغير الامريكي، أن نتنياهو لا يريد خطة سياسية، ولا هدوء شامل، لأن ذلك سيؤدي لأزمات داخلية في إسرائيل سوف تُسقطه ليذهب إلى السجن بسبب قضايا الفساد، لذلك نتنياهو يبحث عن إستمرار العدوان وعلى مبدأ “لا حرب شاملة، ولا هدوء تام”، وهنا كما يبدو الصدام قادم لا محالة بين إدارة بايدن ونتنياهو، بل يبدو أن غانتس وإيزنكوت لا مجال امامهم سوى الإنسحاب من الحكومة الحالية، فحزب الجنرالات يعيش حالة من الغضب بسبب إستمرار غانتس في حكومة نتنياهو والذي يتلاعب بالجميع.
خامسا-يعلم نتنياهو ان وقف الإبادة ضد قطاع غزة سيعجل من إنتهاؤه السياسي، بل سيذهب للسجن، حيث سيسقطه جنود الإحتياط والرأي العام الإسرائيلي والذي يطالبه بالإستقالة، لذلك نرى الرأي العام في إسرائيل جاهز للخروج بمئآت الآلاف وهذا يوضحه استطلاع الرأي حيث، 72% يطلبون ذلك، 31% منها يريدونها الآن وبشكل فوري.
سادسا- موقف حماس والقسام والمقاومة ككل، حيث هناك رفض للمخطط الأمريكي الذي يريد نزع سلاح المقاومة والقسام، ويرفض شروط نتنياهو غير الحقيقية وغير الواقعية، ويضع شرط واحد بان لا مفاوضات حول تبادل الاسرى إلا بوقف إطلاق نار دائم وإنسحاب إسرائيلي من القطاع، وهذا يؤشر إلى أن المقاومة وفي كل الجبهات جاهزة لحرب إستنزاف طويلة ضد الإحتلال الإسرائيلي.
سابعا- على الرغم من كل ما ذكر أعلاه، فهذا لن يمنع من التوصل إلى “هدن إنسانية” أو “وقفات إطلاق نار إنسانية” أو تدفق المساعدات الغذائية والدوائية والوقود عبر معبر رفح ومعبر كرم أبو سالم الذي فرضت أمريكا على إسرائيل فتحه.
خلاصة الموقف
الأمور تتمحور على محاولة التوصل لخطط سياسية تُتيح الفرصة للضغط على نتنياهو لوقف إبادة غزة، لكن كل ذلك يتم بالنار والقصف والتدمير في محاولة فرض تلك الخطط على المقاومة والقسام بالذات، وبالتأكيد ووفق كل المعطيات فواضح أن القسام والمقاومة لا يوجد في قاموسهم إعطاء أي إشارة للموافقة على تجريدهم من السلاح، وهم مستعدين للذهاب إلى أبعد مدى في المواجهة العسكرية مما سيزيد من إحتمالية توسعها لتصبح حرب شاملة في كل منطقة المشرق العربي ككل.
عليه، فنجد أن الخيارات المتاحة والممكنة على المدى المنظور كما يلي:
أولا- إستمرار المعركة بالحد الادنى حتى نهاية شهر كانون ثاني، وتحولها إلى حرب إستنزاف.
ثانيا- إتساعها لتشمل كل الجبهات بمعنى الحرب الشاملة وبما يؤدي إلى التدخل الدولي للتوصل لوقف إطلاق نار سريع، وهذا ما لا تريده امريكا، ولكن قد يغامر فيه نتنياهو لتوريطها من جهة، ومن الجهة الاخرى لكي يحسن الصفقات الممكنة والمستعصية في حرب الإبادة على قطاع غزة.
رابعا- إندحار الأمريكي والإسرائيلي كنتيجة للمعركة الدائرة وبما يؤسس لتحولات كبيرة في كل المشرق العربي، تؤدي لإنسحاب الاحتلال من الأراضي اللبنانية المحتلة وتؤسس لظهور المشهد الفلسطيني ككيان مستقل على الجيو سياسي في المنطقة حتى لو كان بشكل تدريجي، وهذا سيشمل الجولان بمقاربات روسية – إسرائيلية.
خامسا- واضح انه مهما كانت النتائج فالمستقبل هو ظهور كيان فلسطيني يربط بين غزة والضفة ويكون مركزه السياسي والإداري والاقتصادي هو قطاع غزة الذي تحدث فيه إبادة لم يشهدها التاريخ المعاصر حتى في الحرب العالمية الثانية، بإعتبار ان المساحة الجغرافية لقطاع غزة لا تذكر مع جغرافيا الدول التي دمرت فيها مدن بالكامل ولكن لم تدمر الدولة، كما يدمر كل قطاع غزة.
اخير، الميدان هو صاحب الكلمة الفصل، وامريكا ومعها إسرائيل تخطيء في حساباتها، والهزيمة الإستراتيجية للإحتلال قادمة لا محالة، خاصة بعد عمليات التطهير والتهجير والإبادة التي يمارسها في قطاع غزة، لان الرأي العام العالمي وبالذات الغربي اصبح اكثر تأييداً وتعاطفا مع القضية الفلسطينية، وغزة وشعبها ومقاومتها لا خيارات امامهم سوى الصمود والمقاومة بالرغم من كل شلالات الدم السائلة في شوارع وازقة كل سنتيمتر من جغرافيا غزة الممتدة من بيت حانون وحتى رفح.