كيف يلتقي العالم الأول مع العالم الثالث في ساحة النبش! هل سنشهد في المستقبل وجود فحص PCR لكشف الموالاة للصهيونية؟
بالأمس تم انزال الخبر الموجز حول قيام محطة دوتشيه فيله بفصل خمسة من الصحافيين العرب تحت دعاوى وإتهامات ( بمعاداة السامية ) و ( التواطؤ بالتعاطف ) مع شخصيات وتوجهات تعتبر متوافقة مع النهج الإيراني أو أضلاع القوى المناهضة للحركة الصهيونية في المنطقة .
لفترة طويلة كنت من الحريصين على متابعة قناة دي دبليو بنسختها العربية بسبب جودة وقوة وتنوع المحتوى الذي تقدمه القناة بحرفية عالية وقدرة إخراجية حديثة أنيقة جاذبة لكل الأطياف الثقافية وكنت بنفس الوقت من المتابعين ولا زلت لباقة واسعة من القنوات العربية والغربية للبحث عن الأفضل والأكثر حرفية و ( نظافة ) في طرح المحتوى الإعلامي والإخباري ومثل هذا البحث يعتبر كالبحث عن السراب.
تعلمت مثلي مثلكم عبر سنوات من متابعة الفضائيات بشتى صنوفها أن الحداثة والاستوديهات الحديثة والمذخرة بكل ما يخطر في البال والمذيعين المحترفين لا تعني على الإطلاق النوايا الحسنة أو الحرص على وعي المشاهد وتنويره ، بل على العكس تماما حيث قد تساق كل هذه المدخلات لتوفير البيئة الأقوى لزيادة تغريب الوعي وطمس الحقائق ومنحها غير شكلها الحقيقي ولنا مع الجزيرة وبي بي سي العربية وفرانس وغيرها تجارب عديدة وخيبات أمل قاسية.
ما الذي يمكن أن نقرأه في قرار المحطة الألمانية بفصل هؤلاء الصحافيين العرب وما الذي يمكن أن يعنيه أو يدل عليه أو يرتبط به من كلام ؟
الملاحظة الأولى حول هذا الخبر والسلوك الذي قدمته القناة المتحضرة التي تنوب عن دول العالم من الفئة الأولى أن السلوك السياسي والتعسفي الذي أجرته بحق الصحافيين العرب لم يختلف في شيء عن السلوك المماثل الذي تقدمه دولة من دول العالم الثالث بأشمله ، نتذكر كيف أقدمت السعودية على فتح العتاب والعقاب على لبنان كدولة بسبب تصريح قديم لوزير الإعلام جورج قرداحي أو كمصر عندما انتزعت جنسية الناشط رامي شعث وطردته من أرضها لنشاطاته السابقة ضد الاتفاقيات مع الكيان ، لم تختلف دولة العالم الأول التي تمثل معسكر الحريات والتعدديات السياسية واحترام حقوق الإنسان عن دول العالم الثالث التي تتمتع بالعكس في نبش صفحات قديمة ليست ذات ارتباط مباشر وتحويلها إلى تهم معلبة تناسب أي زمان وأي مكان وهذه المعلبات الجاهزة قادرة على تفسير أي قرار أو سلوك عدائي تجاه الضحية وإن كان هنا من ملاحظة يجب أن تذكر فهي أن الإشارة قوية جدا لمدى نفوذ اللوبي الصهيوني وحضور يده الطولى في بقاع الأرض ودولها بغض النظر عن مظاهر التحرر وادعاء الديموقراطية ووجود السلطة الرابعة أو الصحافة ، لقد أصبحت سياسة النبش في الأرشيف الشخصي والماضي المدون للشخصيات المستهدفة ملمحا معاصرا لنظام عالمي جديد يتشكل وينمو بسرعة و قاعدته المطلقة هي المحاسبة المطلقة واللاغفران حيث يتكفل الرصيد الرقمي المتشكل عبر السنوات بقصد أو بدونه بتشكيل مرجع شخصي لكل منا لا يرحم ولا ينسى ولا يغفل أي شاردة أو واردة ويفصل الناس إلى فريق في المقربين وفريق من المنبوذين !
دعونا نتذكر جيدا أن امبراطوريات الإعلام العربي الكبيرة الممولة من كاش البترودولار والممتدة عبر الحزام الناري العربي في عواصم العرب المتقزمة طبيعيا ووجوديا تمارس سياسات إقصائية وتعيينية أشد وبالا مما فعلت دي دبليو الألمانية ، وكل صحافي أو إعلامي او مذيع يتم تعيينه يجب التأكد جيدا ليس من ( نبش ) سجله الطويل فحسب بل يجب التأكد من خلو رأسه من أية أفكار أو مبادىء أو ( ميول ) تؤمن بخرافات من مثل القضية الفلسطينية – الحقوق العربية – النضال العربي – المقاومة العربية للمشروع الصهيوني – الهوية العربية الاسلامية – المؤامرة على سوريا ، اليمن ، العراق ، فلسطين …….، كل هذه العناوين ومحتواها ومشتقاتها تعتبر من المحرمات الكبرى التي لا يمكن السماح بتسللها داخل أروقة هذه الإمبراطوريات السامة ، يجب أيضا التأكد من جاهزيته الأخلاقية للقبول بالمعطيات السياسية الجديدة ويؤمن جيدا بمزيج الإبراهيمية والمثلية والاباحية والتعددية الفكرية والدينية وغيرها من مؤلفات التلمود الجديد والعالم الاسرائيلي الذي في طريقه للنهوض عاليا في كل عواصم العالم ، ولهذا السبب علينا التفكر جيدا بطيعية كل صحافي وكل إعلامي يشتغل ضمن هذه الامبراطوريات ……. تخيلوا حتى أن رجال الدين العاملين في هذه المواقع أو المتواطئين مع هذه الأنظمة عليهم أن يبدلوا جلودهم وأفكارهم الدينية حتى لو تسبب ذلك بخروجهم من الملة والدين وبلوغهم أشد درجات الردة والكفر.
الملاحظة الثانية والتي يجدر ذكرها والموجهة للصحافة والإعلام العربي بأن هذه اليد الطولى ذات الملمس الصهيوني قد بلغت فعلا حدودا وحضورا هائلا في الساحة الإعلامية العربية وأصبح من النادر جدا وجود أي نوع من الكلام القوي أو التشخيص الدقيق لأعداء الأمة لأن قوى ونفوذ اليد الصهيونية قد تغلغلت ووصلت إلى كل صحافي وكل إعلامي عربي مناوء وتحولت قوى الأمن العالمي و العربي إلى ما يشبه ( أذرع التنسيق الأمني الفلسطيني ) داخل أراضي السلطة والتي تتمثل مهمتها في تطبيق الأوامر والأجندات من الصهيونية العالمية ومن يمثلها ولكن هذه المرة على مستوى عالمي وعربي أوسع وأكبر مساحة .
الملاحظة الثالثة تأتي بشكل سؤال يطرح نفسه هنا : لو إفترضنا وهما بأن القطاع الصحافي والإعلامي العربي قرر الرد بالمثل على قناة دي دبليو و قرر طرد وفصل كل صحفي وإعلامي لديه ( ميول ) صهيونية ، فكم عدد الصحافيين والإعلاميين العرب الذين سنجدهم خارج حدود هذه المهنة ؟ وكم سيكون عدد المتبقين ؟ ألا يكفيهم أن أكثر من ثلثي الصحافة العربية و العالمية تخضع لنفوذهم وأوامرهم ؟؟
جميعنا يعلم أن ألمانيا السياسية هي شيء غير موجود وإنما لدينا كيان حداثي تابع يتمتع بكل شيء لكنه مجرد من جنسيته السياسية العالمية ولا يهش ولا ينش إلا في موقع التابع والمؤيد والمطبل للسياسات الأمريكية الخارجية وبالطبع سيكون تابعا لليد الطولى الصهيونية تلقائيا .
الملاحظة الرابعة تؤكد أنه من الواضح أن المنحى المرسوم للفترة القريبة أننا سوف نعجز عن توجيه أية كلمة أو اي تهديد أو وعيد أو اشارة من قريب أو بعيد للكيان الصهيوني تماما كما نعجز اليوم عن تشخيص صهاينة العرب بالصورة المباشرة وسأذكركم بان قنوات عربية عديدة سوف تبدأ بالعد للعشرة في كل تصريح أو مقابلة أو نوعية مقابلة تجريها إلى الحد الذي سوف لن نسمع مقابلات او لقاءات للشخصيات العربية السوية الثابتة إلا في قلة قليلة متبقية من المحطات المهمشة.
فرح وزملاؤها مذنبة ليس لأنها قدمت محتوى مناهض ومعاد ( للسامية ) بل هي تعرضت لذلك لأن قلبها يحمل شيئا من الموالاة لقضايا أمتها وهويتها العربية هي وكل من رافقها في التهمة ، لن نستغرب لو ان دولة الكيان وخلال فترة قريبة فرضت على هذا العالم العاهر الذي نعيشه أن يطبق فحص الكذب بشأن محبتك للكيان الصهيوني أو الخضوع لفحص جهاز جديد يكشف إن كان قلبك يحمل حبا لفلسطين أو لأية قضية عربية أو مؤيدا لأية قضية عالمية عادلة ، لن نستغرب لو خرجوا علينا غدا بفحص PCR جديد لكشف وجود التعاطف مع ايران أو حماس او حزب الله او أي جهة او فصيل معاد لهم .
يسأل الصحافي الجيوسي بالأمس في مقالته : أين الحرية وأين الموضوعية في قصة الصحافيين المفصولين ؟
لقد ضاعت سيدي مع رمال الربع الخالي والربع المليء بالأحزان والهموم في بلاد العالم و بلادنا التي تحاربنا وتحارب مصيرنا ومستقبلنا وحتى وجودنا بين خلق الله ، لقد أهدر حكام العرب كرامتنا حتى النخاع ولم يعد من أحد ليعبىء أو يحفل او يسأل أو يقيم لنا وزنا كمواطنين او صحافيين او مفكرين أو حتى ككائنات حية تتبع مملكة الأحياء ، لو كان هؤلاء الصحافيون من الجماعة المرتدين أو المتصهينين وشتموا كل أمة العرب ونبي الإسلام وكل رمزعربي وكل جوهر عربي من التاريخ العتيق حتى التاريح الحديث لجرت ربما ترقيتهم ومكافأتهم وإثابتهم على ما قاموا به وربما استضافتهم قنوات النجمة السداسية وما أكثرها .
فصل فرح ومرام وباسل وداوود ومرهف هو تاج فخر لهؤلاء في هذا الزمان الاسرائيلي الذي طال ليله زيادة عن اللزوم ، لكننا نعزي انفسنا ونعزي هؤلاء الشبان الصحافيين بأن هذا الزمان قد آن أوانه وما اشتد الليل إلا كي تمزقه إشعاعات النور القادم من أولئك الصابرين والثابتين على الحق ، وما اشتد الظلم والجور إلا لكي يأذن الله بفتح جديد وإشراق جديد لشعوب العرب.