القيادة الأوكرانية نموذج رائع لقياس الفشل..أكرم عطا الله

أحياناً يحتاج المرء الى حدث كبير ليكتشف حقيقة صغيرة، وهذا من عاديات السياسة وتجلياتها والتي عادة هي تعبير حقيقي عن المجتمعات وتختصر تاريخها واقتصادها وثقافتها ونمط إدارتها، والتي بات واضحاً أن لها دوراً هاماً في تطور الدول وموقعها. وهناك ما يكفي من شواهد التاريخ حول دور القيادة في السير الى الأمام كما فعل مهاتير محمد، وبالمقابل هناك مغامرون عادوا بالويلات على شعوبهم ودمروا دولهم مثل هتلر.
لم تكن أوكرانيا على خارطة اهتمام المتابعين في السنوات الأخيرة، فهي ليست دولة مركز في السياسة ولا هي دولة فاعلة، ولم توجه لها الأنظار أثناء الجائحة، ولم نكن نهتم كثيراً بمتابعتها إلا عابراً حين يصرح رئيسها قلقاً على إسرائيل من الفلسطينيين، أو حين نرى أعلام أوكرانيا على الدبابات في العراق أو أثناء المباريات الدولية فقد عادت للوراء منذ أحداث القرم.
لكن الحرب أعادت تسليط الأضواء على تلك الدولة وأعادت من جديد البحث عن سكانها وثرواتها واقتصادها وقيادتها ومستوى المعيشة، لنكتشف أنه في قلب أوروبا دولة يعيش 35 – 42% من سكانها تحت خط الفقر ومعدل الرواتب فيها بحدود المائتي دولار أو حولها، ويحلم سكانها بالرحيل نحو غرب أوروبا بحثاً عن فرص عمل جدية، وهي دولة مدينة اذ يبلغ دينها العام 78 مليار دولار وتعجز عن سداد ديونها.
المفارقة أن هذه الدولة صناعية وبها عدد من أهم المصانع في العالم والتي بقيت منذ الحقبة السوفييتية خصوصاً صناعات الحديد والصلب والمعادن، والأهم أنها دولة زراعية، حيث تعتبر ثاني أكبر مصدر للحبوب بمختلف أنواعها والزيوت على مستوى العالم حسب بيانات وزارة التنمية الاقتصادية الأوكرانية،  بالإضافة للثروة الحيوانية، أوكرانيا وريثة الدولة النووية ولا ينقصها وفرة العقول بدءاً من الذرة وانتهاء بالحواسيب والبرمجيات، وتطعم أوكرانيا البلد الذي تبلغ مساحته ثلث مساحة دولة عربية مثل السودان 600 مليون في العالم أي ما يقارب 13 ضعف عدد سكانه.
ما بين الدخل العام والذي يبلغ حسب ويكيبيديا 188 مليار  دولار ويصنف اقتصادها في المرتبة 45، وما بين الفقر العام الذي يضع أكثر من ثلث سكان الدولة تحت خطه لغز محير. فكيف لدولة تطعم هذا القدر من البشر وتنتج هذا القدر من الغذاء وهذا الدخل أن تشمل هذا القدر من الفقر؟ ولكن الجواب كان سريعاً عندما تم تسليط الضوء على الشخصية البهلوانية للرئيس الأوكراني، وطريقة إدارته للبلاد، وطبقة رجال الدولة الذين عينهم بطريقة الولاء، والأصدقاء الذين كانوا معه في المسارح وطريقة فهمه للسياسة، وكيف قاد دولته الى هذه الحرب عندما صدق كل ما يقال له ولم يحسب بميزان بائع الذهب كما يجب أن يفعل السياسيون.
 لقد قدم نموذجاً للدول الفاشلة والقيادات المغامرة التي تنتج الفشل وتدمر الشعب والدولة ومؤسساتها حين تقود الدولة بمنطق الهواة. هذا على صعيد السياسة، أما على صعيد الادارة فكل شيء هناك ربما يسلط الضوء أيضاً على نموذج القيادة الفاسدة وتخلف الأمم. فالأمر لا يتعلق بالصناعة والزراعة والعقول بقدر ما يتعلق بالشفافية والإدارة الحكيمة والقانون ومكافحة الفساد وخطط التنمية والقدرة على استثمار هذه العقول والموارد المادية.
لقد أثبت زيلنسكي وطاقمه أن الفشل ليس بالضرورة طبعة عربية كما كنا نعتقد ونجتهد في محاولة فهم المنطقة وعوامل تخلفها، وأسباب هذا الفشل وعلاقته بالتراث وبالمناخ والقبيلة. ولكن أوكرانيا قدمت جواباً آخر بأن الأمر أكثر بساطة من كل الدراسات المعقدة، فالأمر يكمن في الفساد والرشوة وغياب القانون ومراكز القوى وتعيين الهواة، فلسنا أمام بلد متصحر فاشل بل أمام نموذج منتج صناعياً وزراعياً ومليء بالعقول لكنه أقرب للمنطقة العربية منه لأوروبا.
أما لماذا لا تزرع ولا تصنع الدول العربية مثل أوكرانيا؟ فتلك رواية أخرى، وهي المنطقة التي بدأت الزراعة فيها وتملك وفرة من الأنهار والشمس والمناخ الملائم لزراعة الحبوب التي بدأت منذ آلاف السنين، ما يضيف الى الدول العربية هَماً آخر أكبر من هَم أوكرانيا وتساؤلاتها.
يتم الترويج لنظرية المؤامرة التي تستهوي العقل العربي وتمنعه من التفكير بالأزمة، وتلك ليست أكثر من لغة تبريرية للشعوب التي سلمت قدرها واستكانت، ومريحة أكثر لمن تناوبوا على حكم المنطقة من الهواة الذين أورثوها كل هذا التصحر، بل تصحر العقول أيضاً. لكن شواهد التاريخ غير ذلك، فالمنطقتان اللتان شكلتا يوماً خطراً على الولايات المتحدة هما اليابان وألمانيا، الأولى بانتحاريي الكاميكاز وبيرل هاربر والثانية بالنازي. ومازالت القواعد الأميركية موجودة في الدولتين، ولو فككت قواعدها في كل دول العالم لن تخلي وجودها منهما، ولكنها ساعدت على نهضتهما لأن تلك الشعوب كان لديها ارادة النهوض، والأفضل للولايات المتحدة دول غنية، فهي بالنهاية دولة رأسمالية وفي الدول الغنية بإمكانها بيع منتجاتها وتحقيق عوائد، لكن الدول الفقيرة عبءٌ تنفق عليها وتقدم لها مساعدات.
لا شيء يمنع العالم العربي من الصناعة سوى فشل الإدارة، العالم العربي يعيش عصر الزعيم والملك فيما تقاد الشعوب اليوم بمنطق الادارة. فالقيادة الأميركية اسمها «الإدارة الأميركية» وهي تدير 330 مليون شخص بكفاءة عالية تحكم بهم العالم، وتدير أوكرانيا 43 مليون شخص توفر لهم كل هذا المحصول والإنتاج لكنه يضيع بالسرقة والفساد. ففي عام 2016 طلب من نواب البرلمان الأوكراني الإقرار بثروتهم ليبلغ مجموع ثروة 413 نائباً 460 مليون دولار. وهنا السر الذي تقدمه القيادة الأوكرانية لأزمة الوطن العربي، وتتحول الأزمة إلى كارثة عندما يحكم المغامرون غير الأسوياء في السياسة. هل اقنعنا النموذج الأوكراني؟ فهو يصلح للتدريس واستخلاص العبر كنموذج حي لما يفعله الفساد والفشل بالشعوب وبالدول.. بواقعها ومستقبلها…!!!!