المفكر الإسلامي نجم الدين أربكان: ثلاثية الدين والسياسة وفلسطين ..د. أحمد يوسف

لم ألتقِ نجم الدين أربكان في تلك الفترة التي مكثتها للدراسة في تركيا مطلع السبعينيات، والتي لم تتجاوز الستة أشهر، إذ عدت بعدها إلى قطاع غزة ومنها إلى مصر، حيث حصلت على شهادة البكالوريوس في الهندسة من جامعة الأزهر بالقاهرة.

في مطلع السبعينيات سافرت إلى تركيا للدراسة، ولكن لم ألتقِ أربكان في تلك الفترة التي لم تتجاوز الستة شهور، إذ عدت بعدها إلى قطاع غزة ومنها إلى مصر، حيث أنهيت دراسة البكالوريوس في كلية الهندسة بجامعة الأزهر بالقاهرة.

لم أسمع كثيراً عن أربكان كزعيم إسلامي خلال فترة وجودي في القاهرة أو الإمارات، ولكن بعد سفري لأمريكا وانخراطي في الأنشطة الإسلامية هناك، بدأت تصل مسامعنا في الثمانينيات بعض الأخبار عن أربكان ونشاطه الدعوي والسياسي وصراعه مع العسكر في بلاده.

في الثمانينيات، أخذت مساحة العمل الإسلامي في أمريكا بالتوسع كثيراً، من حيث حجم الأنشطة التي كنا نقيمها كإسلاميين، إذ غدت أمريكا محطَّ رحال القيادات الإسلامية من جميع بلدان الشرق الأوسط، وخاصة في عطلة عيد الميلاد نهاية شهر ديسمبر من كل عام.

كان السيد نجم الدين أربكان حاضر الذكر على ألسنة بعض هؤلاء القادة، وقد أصبح أحد رموز العمل الإسلامي، بل هو الأهم بين من يمارسون العمل السياسي منهم. وقد كانت تصلنا أخبار ما يتعرض له من حالات سجن واعتقال لإجهاض تجربته الفاعلة في السياسة والعمل الدعوي.

في بداية التسعينيات، جاء إلى أمريكا زائراً كأحد قيادات “حزب الرفاه” الإسلامي، وكان مصطحباً معه د. عبد الله غُل؛ الخبير الاقتصادي، والذي يتحدث بأكثر من لغة من بينها العربية والإنجليزية، ولديه خبرة بالغرب كونه درس في بريطانيا، والذي أصبح فيما بعد رئيساً للجمهورية التركية. كان اللقاء الأول في المجلس الإسلامي الأمريكي، والذي أشرف على ترتيب برنامج زيارته الأستاذ عبد الرحمن العمودي؛ المدير التنفيذي للمجلس، في العاصمة الأمريكية واشنطن. طلبت منه أن نلتقي به، حيث استضفناه في حوار بمركز الدراسات والأبحاث الذي كنت مديراً له، وجمعتنا به جلسة تحدث فيها طويلاً عن الإسلام وفلسطين والغرب، وكانت فرصة لي أيضاً للحديث عن ذكريات إقامتي في تركيا والسؤال عن أحوال بعض الأصدقاء الذين عرفتهم هناك. كانت هذه الزيارة للمؤسسة التي أديرها هي بداية المعرفة الحقيقية بهذه الشخصية الإسلامية العالمية.

في عام 1997، أصبح أربكان أول رئيس وزراء إسلامي يصل للحكم عبر فوز حزبه في الانتخابات البرلمانية. ولكن بسبب ما تعرض له من ضغط العسكر، وفي انقلاب أبيض قدَّم استقالته وترك كُرسي الحكم.

في تلك الفترة من أواخر التسعينيات، تلقينا رسالة من السيد أربكان برغبته في أن يلتقي بعدد من قيادات العمل الإسلامي في أمريكا للتشاور معهم في بعض المسائل الخاصة بقرار المؤسسة العسكرية منعه من العمل السياسي. ذهبنا إلى هناك، حيث التقيناه في مقر إقامته الصيفي بمدينة إدرميت على بحر إيجه، حيث مكثنا يوماً كاملاً بصحبته مع بعض رجاله المخلصين من القيادات والنواب.

حدثنا الرجل بمرارة عن المؤامرة التي تحاك ضده لإبعاده عن العمل السياسي، بدعوى خروجه على نهج أتاتورك العلماني في إدارة شئون الدولة. في الحقيقة، كان الإسلام هو المستهدف، حيث إنَّ العسكر يزعجهم هذا التنامي السريع للحركة الإسلامية التي يمثلها أربكان وحزبه، وبالتالي تأتي هذه التحركات التي يقوم بها الجيش من حين لآخر بحلِّ الأحزاب التي يقوم بتشكيلها، بهدف وقف مسيرته الإسلامية والسياسية في البلاد.

طلب السيد أربكان الاستئناس برأينا فيما يتوجب عمله لفضح هذه المخططات التي يقوم بها العسكر لإجهاض التجربة الديمقراطية في بلاده، والتعريف بحركته ورؤيته للنهوض بتركيا الحديثة، والتي يحاول سدنة العلمانية التحريض ضده وتشويه صورته عبر وسائل الإعلام واتهامه بالانقلاب على العلمانية وبالغلوِّ والتطرف!!

كان أربكان (رحمه الله) يعرف أن العسكر في بلاده لا يتجرؤون على القيام بأي تحركات انقلابية أو ما يمكن أن يمس استقرار البلاد دون الرجوع لأمريكا؛ حليفهم الاستراتيجي، لذلك كان أربكان معنياً بعمل إعلامي في الغرب لشرح وجهة نظره في كل ما يجري في بلاده من تعدٍّ خطير على الديمقراطية وعدم احترام للحقوق الإنسانية.

وبناء على ذلك، كانت مهمتنا هي مساعدته في هذه المهمة. وفعلاً؛ بعد عودتنا إلى أمريكا باشرنا العمل كلٌّ في مجال تخصصه للتعريف بالسيد أربكان وحزبه، الذي يتعرض للاضطهاد من قبل العسكر، وتحت حماية العلمانية في تركيا تُستباح كلّ القيم الديمقراطية وتداس الحقوق الإنسانية.

قمت بكتابة دراسة باللغة الانجليزية تحت عنوان “صراع الإسلامية والعلمانية في تركيا: تجربة نجم الدين أربكان”، وتعمدنا إرسالها إلى كلِّ الشخصيات النافذة في الكونجرس ومراكز البحث والدراسات والأكاديميين في العاصمة الأمريكية واشنطن، مؤملين أن تؤتي أكلها ولو بعد حين، بحيث يتوقف العسكر وبضغط أمريكي عن محاولاتهم تعطيل المسيرة الديمقراطية في البلاد بذريعة الدفاع عن العلمانية.

في 30 مايو 2011، كانت الذكرى الأولى للمجزرة التي ارتكبها الجيش الإسرائيلي على ظهر سفينة (مافي مرمرة) ضد المتضامنين الأتراك المطالبين برفع الحصار عن قطاع غزة، والتي راح ضحيتها عشرة من الشهداء. شاركت بتلك المظاهرة الضخمة التي جابت شارع الاستقلال الشهير، والمؤدي إلى ساحة تقسيم بمدينة إستانبول، حيث كانت حناجر الحشود تهتف لفلسطين ونضالات شعبها، وكانت نحمل اللافتات وتردد الشعارات المنددة بإسرائيل والحركة الصهيونية، وتطالب بمساندة جهاد الشعب الفلسطيني وحماية مقدساته. التفتُّ إلى صديق تركي كان برفقتي وهو السيد عمر الفاروق كُركماز، وسألته: من أين جاء كلّ هذا الحب والحماس لفلسطين والمسجد الأقصى؟ أجاب: يا أخ أحمد.. هذا ما غرسه أربكان فينا، ففلسطين هي قضيتنا المركزية، وأنك لن تجد تركياً ملتزماً إسلامياً إلا وفلسطين قلبه النابض، وقد تمددت جذور هذا الارتباط والعشق إلى شباب وقيادات حزب العدالة والتنمية. لم يكن هذا الأمر مستغرباً بالنسبة لي، فقد لمسته منذ زمن بعيد وسط أتباع حركة (مللي قوروش- الرأي الوطني)، وهي الحركة التي أسسها السيد أربكان عام 1969 في ألمانيا، قبل أن ينثر بذورها في تركيا بعد عودته إليها.

وبعد تكرار الانقلابات التي قام بها الجيش لحلِّ الأحزاب التي شكَّلها أربكان ومريدوه، قامت مجموعة من الإسلاميين بعد ذلك بتأسيسحزب سياسي باسم “العدالة والتنمية”، متجنبين استخدام الشعارات الإسلامية، بهدف قطع الطريق أمام العسكر، وسد باب الذرائع أمام سياسة الانقلابات التي تمرسوا عليها. 

في عام 2001، ذهبت إلى السعودية للحج بدعوة ملكية، حيث شددت الرحال مع مجموعة من قيادات العمل الإسلامي بالولايات المتحدة الأمريكية.. وهناك كانت إقامتنا في قصر السلام بمكة المكرمة، وكانت فرصة لنا للقاء برئيس الوزراء السابق نجم الدين أربكان، الذي كان هو أيضاً ضمن ضيوف الملك فهد بن عبد العزيز (رحمه الله). تحدثنا ما وسعنا الوقت للحديث، وقد وجدت الرجل على قناعاته ورؤيته الاستراتيجية التي عرفت، وهي أن فرصة الإسلام في الحكم ما تزال قائمة، برغم كل مما تخطط له الماسونية والصهيونية العالمية من مؤامرات لإجهاض حالة النهوض والبعث الإسلامي.

توفي البروفيسور نجم الدين أربكان (رحمه الله) يوم 27 فبراير 2011، وقد تمَّ دفنه في مقبرة (مركز أفندي) في إستانبول. وفي أول زيارة لي لتركيا بعد وفاته منتصف ذلك العام، قمت بزيارة لقبره والدعاء له، وفي عام 2021 قمت بزيارة أخرى لقبره بمناسبة مرور 10 سنوات على وفاته، وقد حضر ابنه الفاتح تلك المناسبة مع حشد من اتباعه. 

نعم؛ رحل نجم الدين أربكان (الخوجة؛ أي الأستاذ باللغة التركية) إلى ربه، والتحق (رحمه الله) بالرفيق الأعلى، ولكنَّ فكرته لم ترحل، وحبه لفلسطين وأهلها لم يغب، وقد حقق له تلامذته ومريديه -الذين اختلفوا معه في مرحلة سابقة – الكثير مما كان يتطلع إليه من عودة تركياالحديثة لهويتها الإسلامية واستعادة مكانتها التاريخية بين الأمم.

2