جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
تقول مستجدات الحياة وكذلك ما توفره البحوث من مؤشرات فى مجال علاقة البشر بوسائل الإتصال والإعلام أن فكرة الاعتماد على الميديا ومنصاتها الأساسية والمستحدثة هى ماء وهواء حياة، ضرورة لكى يبقى الكائن الإنسانى مندمجا بل ومتكيفا مع محيطه العام بكل ما يتضمنه ويستجد به من أحداث، وأنها لم تعد أبدا من المكملات الغذائية لنمو العقل بل تشبه الخبز لايستغنى الجمهور عنه أبدا ولو تعددت أشكاله وتعبيراته الاقتصادية، أو هكذا شاءت تطورات الحياة، وكالخبز أيضا يحلو للجمهور أن يستهلك محتواه طازجا أو على الأقل أن يتبدى له ذلك، وهى تختلف عن الخبز فى أنه وبينما يمكن جوعا أو كسلا أن تمتد يد لرغيف ليس طازجا تماما من رف بائع أو ثلاجة، فإن الجمهور ليس فى إحتياج أبدا لأن يفعل ذلك مع المحتوى الإعلامى، فأفران خبزها متراصة متنوعة سريعة الإنتاج، وتقدمه طازجا مباشرا ومن خلال شاشة الشاشات وحاوية الميديا والمضاءة دوما، شاشة الهاتف الذكى الذى لايفارق يده صحوا أو مناما، والذى أصبح عدد حيازته ارتباطا بعدد السكان يكاد يتطابق فى أغلب جغرافيا الكون.
عصر المنصات الذى صارا حاضرا ويكتمل تشكله مستقبلا إعلاميا يتعامل مع مساحة جماهيرية تزداد باضطراد بفعل النمو العمرى والتوالد المتوالى لأجيال صغيرة وشابة تألف شاشة الموبايل وسيطا لرؤية ومتابعة كل شئ، أجيال تحمل سمات مختلفة تحتاج أولا أن يتم التعرف عليها بدقة وشمول، عبر دراسات متنوعة ومتكاملة تحدد خصائصها وسمات تعاملها مع الميديا ومنصاتها ووسائطها وتوضح حجم اعتمادها عليها فى تعريف المواقف والأحداث.
هو زمن صارت فيه الهواتف الذكية أقرب للشخص من أصحابه وربما أهله، نوافذ ذلك الجمهور المركزية ومصدر متابعاته لكل شئ خاص أو عام، بما تمنحه من تهيئة مختلفة وتفرضه من سمات جديدة للمحتوى، سندرك منها أن الأخبار كوظيفة إعلامية مركزية فى العرف الإعلامى “الكلاسيكى” لم تعد بنفس تعريفها الأسبق وتحتاج إلى إعادة تعريف ارتباطا جزئيا لايهمل طبيعتها الحاضرة وهيمنة تلقيها من مصادر السوشيال ميديا، ولتظل ذات أولوية مجتمعية حتى لو لم تكن “إقتصادية” بشرط التأكد من أنها تصل إلى الجمهور وتصنع أو تشارك فى تعريف الحدث وتدخل عند اللزوم لإعادة التعريف المؤثر بالموقف فى أى جدل تثيره أطراف مختلفة.
تحتاج صناعة الميديا أن تتغذى ببيانات جديدة عن جمهورها وعن حجم وسمات وتفضيلات المتابعة لكى يحدث تفاعل نوعى مبدع مع النمو والتحول المتنامى فى ثقافة التعرض والتصفح لدى كتلة السكان الأكبر والنامية من المراهقين والشباب، ولكى نعرف ظلا من ذلك فلتتابع من نعرفهم من الصغار والمراهقين والشباب لن تجد كثيرين منهم جالسا متلقيا للمحتوى – كعادات أجيال سبقت – بل مكتفيا بجدولة المحتوى الذى يرى وجاهة ما لمشاهدته عبر منصات الميديا ما هو محلى منها وما هو أجنبى، ثم متابعته وقتما يريد – ووفق ظروفه- هكذا اختفى مع الوقت نمط المشاهدة الذى تندرج فيه كتل كبيرة من هذا القطاع العمرى، ليتم إستبداله بسلوك يبدو فرديا دعمته البروفايلات الشخصية على وسائل التواصل الإجتماعى، ولتختفى كثيرا المواقيت وجداول البرامج الكلاسيكية “الجاهزة” من عرف وثقافة متابعة هذه الأجيال، لتحل بديلا عنها المشاهدة “الذكية” ذات الصلة المباشرة بالهواتف الذكية كوسيلة إعلام عصر منصات جديد.
هذا ماحدث – مع فروق التجربة والثقافة – أيضا فى فترة تاريخية مضت، بدخول الريموت كنترول وما صنعه من تحول كان أيضا مدهشا، ليؤسس ما صار يحظى به المشاهد من سيطرة نوعية على التنقل والتحول بين القنوات، وهو ما أثر على سرعة وجاذبية المحتوى الإعلامى، لكن الجديد هو ما تصنعه الهواتف الذكية ودخولها وهيمنتها كوسائل تعرض وتصفح فى مجال الإعلام، وحيث صنع ذلك ما أسميه نمط إلتقاطات المتصفح الملول غير القابل للدهشة إلا قليلا، صاحب الهاتف الذكى المتعجل الذى يتحدث ويأكل ويتحرك وهو يتابع عبر شاشته، هذا السياق الأخير يحتاج إلى تفهم لدمجه فى الوظائف الإنتاجية للمحتوى الإعلامى، تجعله قادرا على البقاء فى عالم تتشكل فيه ثقافات التلقى والتفاعل الإعلامى بوتيرة تحتاج إلى ملاحقتها بل وأحيانا سبقها فهما ورؤية واستبصارا .