الموجة الجديدة من النزوح القسري تضع شرعية القانون الإنساني الدولي على المحك ..

 

 

 في كل ساعة من كل يوم من الشهرين الماضيين، طالبت وكالات الإغاثة بإدخال وتوفير الإمدادات الإنسانية إلى قطاع غزة. وقد تم وضعنا في موقف لا يحتمل في تكرار طلب الإذن للقيام بعملنا المنقذ للأرواح. لماذا؟ يستخدم المدنيون في هذه الحرب كأحجار الشطرنج وتوضع الشروط على المساعدات الإنسانية.

 

تحجب المساعدات الإنسانية أو يتم تسليمها وفقا لأجندات سياسية وعسكرية لسنا في الأمم المتحدة مطلعين عليها. يستخدم الغذاء والماء والوقود، والمعلومات المضللة، بصورة منهجية كأسلحة حرب. إن مهاجمة المنظمات الإنسانية مثل الأونروا وتشويه سمعتها هي وسيلة أخرى لشن الحرب وتعريض الاستجابة الإنسانية للخطر. لقد أعفت حماس نفسها من أي مسؤولية تجاه السكان المدنيين. وبدلا من ذلك، صرحت بشكل مخجل أن المسؤولية الكاملة عن المساعدة الإنسانية تجاه المدنيين تقع على عاتق الأمم المتحدة. وفرضت إسرائيل حصارا شبه كامل على غزة – حيث فرضت عقابا جماعيا على أكثر من 2 مليون شخص، نصفهم من الأطفال.

 

إن الإمدادات الضئيلة التي تسمح إسرائيل بدخولها إلى غزة لا يعول عليها نهائيا في مواجهة الاحتياجات الملحة للسكان بأسرهم. منذ بداية الحرب، شردت إسرائيل قسرا أكثر من 1.8 مليون من سكان غزة من منازلهم، وخاصة من الأجزاء الشمالية من قطاع غزة، مدعية أن الجنوب أكثر أمانا. وتشكل هذه النسبة 80 بالمائة من مجموع السكان في غزة، وهي أكبر عملية نزوح قسري للفلسطينيين منذ عام 1948.

 

 

ومنذ ذلك الحين، قتل أكثر من 200 شخص كانوا يحتمون في مرافق الأونروا، وتعرض ما يقرب من 1,000 للإصابات. تقع معظم مراكز الايواء هذه في المناطق الوسطى والجنوبية من قطاع غزة، التي كان يعتقد أنها أكثر أمنا. الحقيقة المحزنة هي أن سكان غزة ليسوا آمنين في أي مكان: فلا أمان في المنزل، ولا في المستشفى، ولا تحت علم الأمم المتحدة، ولا في الشمال أو الوسط أو الجنوب.

 

 

والآن بعد أن انتهت فترة التهدئة القصيرة فماذا سيكون مصير أكثر من 2 مليون فلسطيني محاصرون في منطقة صغيرة في جنوب غزة؟ لقد رفضت الأمم المتحدة والعديد من الدول الأعضاء، بما في ذلك الولايات المتحدة، بشدة تهجير سكان غزة قسرا من قطاع غزة. لكن التطورات التي نشهدها تشير بوضوح إلى محاولات لنقل الفلسطينيين من غزة إلى مصر، بغض النظر عما إذا كانوا سيبقون هناك أو سيعاد توطينهم في مكان آخر.

 

اكتملت المرحلة الأولى من مثل هذا السيناريو بالفعل – التدمير التام لشمال غزة وتشريد 1.8 مليون من سكان غزة إلى الجنوب. المرحلة التالية جارية وهي إجبار الناس على الخروج من المركز الحضري في خان يونس والتوجه للجنوب بالقرب من الحدود المصرية. ومرة أخرى يُطلب من الوكالات الإنسانية توفير الخيام في مناطق محددة “لا تشهد نزاع” أو “آمنة” في الجنوب. بينما ان الحقيقة هي أن تسمية منطقة من جانب أحد الأطراف بأنها “منطقة آمنة” في حالة الحرب لن تجعلها أكثر أمانا. إن القصف والحصار المشددان يخلقان مرة أخرى ظروفا ليس فيها إمكانية أكثر من مجرد البقاء على قيد الحياة.

 

ويشكل الحرمان من المساعدات الإنسانية جانبا رئيسيا من جوانب هذه الخطة. بعد تدمير الشمال، يأتي تدمير الجنوب، باستثناء أن هذه المرة ليس للناس مكان يذهبون إليه على الإطلاق. بالنسبة للعديد من الفلسطينيين الذين أجبروا على النزوح مرة أخرى، فإن الامكانية الوحيدة لمستقبل أفضل هو مغادرة غزة تماما. واستنادا إلى المناقشات السياسية والإنسانية الجارية، من الصعب تصديق أن الفلسطينيين في غزة الذين نزحوا اليوم سيسمح لهم بالعودة إلى منازلهم المدمرة في أي وقت قريب. إذا واصلنا السير على هذا الطريق، سيؤدي ذلك إلى ما يُسميه الكثيرون بالفعل نكبة ثانية، فلن تكون غزة أرضا للفلسطينيين بعد الآن.

 

سيكون استخدام المساعدات الإنسانية كسلاح ووضع شروط عليها بمثابة الغرق في أعماق جديدة، واستقطاب الأمم المتحدة والوكالات الإنسانية الأخرى، وكذلك المجتمع الدولي على نطاق أوسع. هذا يجب ألا يحدث ولا ينبغي أن يحدث. لا يزال من الممكن اتباع مسار مختلف، بدءا بوقف ثابت لإطلاق النار يؤدي إلى إطلاق سراح جميع الرهائن، والامتثال الصارم للقانون الإنساني الدولي من قبل جميع الأطراف، وتجميد المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، ونقاش حقيقي حول المستقبل مع حل سياسي تفاوضي، بما في ذلك دولة فلسطينية تشمل الأرض الفلسطينية المحتلة.

 

في موازاة ذلك، يجب أن تكون هناك عدالة ومُساءلة – بدون ذلك لن يكون هناك سلام واستقرار. تتمتع المحكمة الجنائية الدولية بالاختصاص القضائي وينبغي لها التحقيق والفصل في الأدلة على مزاعم جرائم الحرب، والجرائم ضد الإنسانية، والإبادة الجماعية، ومحاسبة المسؤولين عن أفعالهم. أخيرا، على الحكومات في جميع أنحاء العالم أن تتصرف بشكل حاسم لمنع القانون الإنساني الدولي من أن يصبح قانون للأقوياء فقط، ومحاسبة أولئك الذين ينتهكونه عمدا، أو يستخدمون المساعدات الإنسانية كسلاح أو يشوهون المنظمات الإنسانية بهدف إضعاف المساعدة وحماية المدنيين والبنية التحتية المدنية.

 

كان الغرض الأصلي من المساعدات الإنسانية الدولية هو التخفيف من معاناة المدنيين أثناء الحروب والنزاعات. وتعود أصولها الحديثة الى الحرب العالمية الأولى، وهي في أنقى صورها خالية من الأهداف السياسية والاقتصادية والعسكرية. ومع ذلك، فإن المساعدات الإنسانية اليوم أصبحت تُشكل بُعداً استراتيجياً للسياسة الخارجية والمنافسة الدبلوماسية – أي أنها أداة للقوة والحرب.

 

ولكي نبقي المساعدات الإنسانية مستقلة ونزيهة، يجب أن يبقى تركيزنا منصبا على مبدأ تخفيف معاناة المدنيين، أيا كانوا وأينما كانوا. وفيما يتعلق بغزة، يتم التلاعب بالمساعدات الإنسانية لخدمة أهداف سياسية وعسكرية، وهو انتهاك آخر من الكثير من الانتهاكات في هذه الحرب.