دفاتر الأيامقديما قالوا في المثل الشعبي ان الضرب في الميت حرام. تبلغ مساحة رفح 55 كيلو متراً، وتضم أكثر من مليون نازح استقبلتهم منذ بداية الحرب على دفعات فغالباً من نزحوا من غزة وشمالها مباشرة إليها أي أنهم يقبعون فيها في ظروف معيشية صعبة منذ بداية الحرب، وبعد ذلك فهناك من نزحوا من خان يونس مع مطلع شهر كانون الأول ومع بدء الاجتياح البري للمدينة، إضافة للنازحين من شمال النصيرات، وهكذا فقد أصبحت المدينة الصغيرة التي لا تمتلك أي مقومات حياتية مناسبة وقادرة على المواجهة في الأيام العادية عبارة عن علبة سردين لتقريب الوصف، ومن المثير للاستغراب كيف احتوت رفح التي لا تمتلك مستشفى بالمعنى الصحيح والحقيقي هذا العدد من النازحين والمشردين والمهجرين هجرة قسرية.
تضم رفح على سبيل المثال مستشفيات صغيرة يمكن أن يطلق عليها مسمّى مستوصف وليس مستشفى على سبيل التضخيم، وللأسف فالإعلام حين يتحدث عن مستشفى الكويت مثلاً فقد تتخيل أنك أمام مجمع طبي هائل مثل مجمع الشفاء، لكن في الحقيقة هو عبارة عن مستوصف بإمكانيات محدودة ويقع في منطقة سكنية مكتظة فتحسبه مثل أي بناية مجاورة لولا اليافطات التي تلفه وتكاثر المرضى والمراجعين أمامه.
ويمكننا أن نقيس على ذلك باقي خدمات البنية التحتية من شبكات مياه وصرف صحي، لكنها احتملت كل هذا التدفق البشري منذ بداية الحرب، واليوم أصبح على هذا الطوفان أن يتحرك، وهو يتحرك بناء على تجارب قاسية سابقة تابعها الناس من خلال الأخبار وكثير منهم قد عايشوها مثل الذين حوصروا في مستشفى الشفاء ومستشفى ناصر، لذلك فالخبرات السابقة لديهم وعلى قلة حيلتهم هي المحرك الأول لهم لكي يهربوا وينزحوا نحو المجهول مرة جديدة لا يمكن ترقيمها وذلك مع بدء العمليات العسكرية في شرق رفح، وما تلاها من سقوط ضحايا وتدمير مبانٍ وممتلكات.
اليوم يتحرك النازحون المنهكون جسمياً ونفسياً ومادياً نحو المجهول، فلا يمكن أن تصنف أي بقعة في غزة على أنها آمنة، فعندما كان الاجتياح البري على أوجه لشرق خان يونس لم تكن المنطقة الغربية آمنة رغم ادعاءات الجيش وتوجيهاته لكي يتوجه المدنيون نحوه، فكل ساعة هناك استهدافات في مناطق متفرقة من وسط المدينة وغربها بما يشمل مخيم اللاجئين المقسم إلى عدة بلوكات.
اليوم لا يدري النازحون أين المحطة القادمة خاصة أن مدينة خان يونس مدمرة بشكل تام وتعاني من انعدام المياه بصورة خاصة بعد تدمير بنيتها التحتية بشكل متعمد، وما يؤلمك أن النازحين يتساءلون أين يذهبون لمكان تتوافر فيه المياه أولاً، مثلما كان يفعل البدو الرحل قديماً فالماء أساس الحياة، ومدينة خان يونس كخيار أو كتوجيه من قبل الناطق باسم الاحتلال أنها آمنة ما عدا المنطقة الشرقية فهي غير صالحة للحياة حتى سكانها الأصليون حين عاد بعضهم إليها فهم يعانون من نقص المياه وينقلونها من أماكن بعيدة بوسائل بدائية.
والمشكلة الأكبر أن النازحين في رفح وغالبيتهم بلا مصدر دخل أو رزق لا يمكنهم تأمين أجرة التنقل وقد أصبح لديهم الكثير من الأمتعة رغم أنها بسيطة مثل الفرشات الإسفنجية والأغطية التي قامت بتوزيعها “الأونروا” وكذلك المؤن وخاصة أكياس الطحين وهو مصدر الغذاء الأول ونقل مثل هذه المتعلقات الشخصية لكل عائلة يصدمها بالتكلفة العالية للانتقال من أصحاب السيارات والشاحنات وحتى العربات التي تجرها الحمير، وقد أعلن أكثر من رب أسرة أنه سيبقى في رفح انتظاراً للموت لأنه لا يملك أجرة نقل عائلته ومتاعهم إلى مواصي خان يونس أو المنطقة الوسطى من القطاع.
المشاهد المؤلمة لحركة النزوح من رفح والتي بدأت صباح الاثنين من هذا الأسبوع لا يمكن أن يتحملها أي قلب لديه القليل من الإنسانية ولا أي عقل لديه وازع من ضمير، لكن يتحملها هذا العالم بصمت لأنه بلا قلب أو ضمير.
هل لديك سؤال؟
تابعنا على السوشيال ميديا او اتصل بنا وسوف نرد على تساؤلاتك في اقرب وقت ممكن.