تعرب أوساط إسرائيلية مهنية وسياسية عن قلقها من التبعات الإستراتيجية الخطيرة لتعامل رئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو مع مجموعة اليهود الأورثوذوكس (الحريديم)، من ناحية إغداق الميزانيات عليهم، رغم أن أغلبيتهم الساحقة لا تعمل، لا تتعلم الرياضيات والعلوم والإنكليزية في المدارس، ولا تؤدي الخدمة العسكرية، وتتفرغ لدراسة التوراة فقط، فيما تزداد نسبتهم السكانية بشكل كبير.
وبعدما هدّد حزب “ديغل هتوراة” بعدم التصويت على الموازنة العامة الجديدة، التي ستطرح للمصادقة عليها في الكنيست غداً الأربعاء، خضع نتنياهو للتهديد، ومنحَهم إضافة ميزانية بقيمة ربع مليار شيكل لصالح مدارس يهودية دينية تابعة للحريديم، ما يؤجج حالة الغضب والاحتجاجات في الشارع الإسرائيلي ضد حكومة الاحتلال وبرامجها الإصلاحية.
ووفقاً لتوقعات خبير التنمية الاقتصادية البروفيسور الإسرائيلي دان بن- دافيد، سيكون في سنة 2065، 40% من مواليد إسرائيل من الحريديم، و15% من العرب، فيما ستكون نسبة غير المتدينين أقل بكثير. ويقول بن دافيد، في مقال نشرته صحيفة “هآرتس” اليوم، إنه على افتراض أنه لن يطرأ انخفاض كبير في حجم الولادات في القطاع الحريدي، ولن يحدث ارتفاع مهم في مستوى التعليم في هذا القطاع- التعليم الأساسي والشهادات الأكاديمية التي تمنح أدوات عمل في سوق عمل غني بالمعرفة- فإن الاقتصاد الإسرائيلي سينهار، وستصبح إسرائيل دولة متخلفة، والجزء الأكبر من سكانها يعاني جرّاء الجهل، الذي يبدأ من عدم الحصول على تعليم أساسي في المدارس الابتدائية. وتابع، محذرّاً، ومنضماً لمئات الخبراء الاقتصاديين ممن يرون أن منح الحكومة الهدايا والعطايا لحزبي الحريديم المشاركين في الائتلاف الحاكم سيسدد ضربة خطيرة للاقتصاد الإسرائيلي: “وما دام النظام الائتلافي لم يتغير، وتتواصل الصفقات السياسية مع الحريديم، مَن يتمكن من المغادرة لن يبقى هنا في سنة 2065. وطبعاً، هذا يشمل الأغلبية الساحقة من قرّاء هآرتس”.
هجرة الإسرائيليين من البلاد
وبعد تحذيره هذا من هجرة أوساط إسرائيلية علمانية وليبرالية من البلاد، في العقود القادمة، يقول دافيد إن الأرقام المذكورة تؤكد أن الهوة التي توجد تحت أقدام المجتمع الإسرائيلي ناجمة بالأساس عن المجتمع الحريدي، وليس عن المجتمع العربي لأن معظم الحريديم لا يعملون ولا يتعلمون ولا ينتجون.
ويمضي في تنبؤاته الخطيرة: “بعد 40 عاماً، سيكون عدد الأولاد الحريديم (نسبة الحريديم من سكان إسرائيل اليوم نحو 12%) في إسرائيل أكبر بكثير من العرب الذين يشكلون اليوم نحو 19% من السكان. ويعتقد بن- دافيد أن مستوى التعليم يؤثر في حجم الولادات، ويمكن أن يشجع الحريديم على إنجاب عدد أقل من الأولاد، والحصول على تعليم أكثر. ويوضح بن دافيد أن المشكلة ليست في الحريديم أنفسهم، ففي رأيه، هم “مساكين”، بل المشكلة في زعمائهم، وفي سياسيّيهم، معتبراً أن هذه الحجة غريبة، فعضو الكنيست موشيه غافني، رئيس اللجنة المالية في الكنيست (عن حزب يهدوت هتوراه) والوزير يتسحاق غولدكنوبف (أغودات إسرائيل) هما ممثلان لجمهور الحريديم، ويستمدان قوتهما السياسية من ازدياد عدد المواطنين الإسرائيليين الحريديم الذين يحق لهم الاقتراع ويصوتون لهما.
بن- دافيد يقول أيضاً إن إسرائيل أصبحت في اللحظة الأخيرة، وهو متفائل، ويعتقد أن في الإمكان تغيير التوجه. لكنه يتساءل: إذا كان التعليم والتقليصات في المخصصات لا يشجعان الحريديم على وقف إنجاب الكثير من الأطفال الذين لا يستطيعون إعالتهم بأنفسهم، هل معنى ذلك أن المشكلة بحد ذاتها غير قابلة للحل؟ إذا كانت هذه هي الحال، ففي إمكان إيران التخلي عن برنامجها النووي، وأن تنتظر، بصبر، الانفجار النووي الحريدي، (هذا من دون أن نقول كلمة عن الواقع الثنائي القومية).
من جهته يتوقع الباحث غلعاد ملاخ، رئيس مشروع الحريديم في “المعهد الإسرائيلي للديمقراطية”، حصول الأحزاب الحريدية في سنة 2040 على 23 مقعداً في الكنيست، وفي سنة 2050، على 25-26 مقعداً، وفي سنة 2060، على 28 مقعداً. ووفقاً لتقدير أقل حذراً للدكتور ملاخ، سيكون لهم على التوالي 25-28، و30-34، و36-40 مقعداً. ويقول إن الميزانية والتشريعات الدينية في الحكومة الحالية تشير، بوضوح، إلى نية المجتمع الحريدي– الذي يتحول بسرعة إلى العامل المسيطر في إسرائيل- أن يفعّله بكل هذه القوة السياسية التي يملكها: تسخير العلمانيين في خدمته، وفي الدفاع عنه، وتشجيع الجهل والفقر. وهذه أمور واضحة كالشمس، إنها قنبلة نووية حريدية. مشروع نووي اجتماعي منظّم سيدمر دولة إسرائيل الليبرالية والمتعلمة والمزدهرة.
ويتابع: “نحن بحاجة إلى الكثير من العقود لنغيّر توجهات الولادات والتعليم، ونرى نتائج على الأرض”.
بالتزامن، تتزايد، في الأيام الأخيرة، المعطيات السلبية للاقتصاد الإسرائيلية، التي باتت تتنبأ بحالة ركود اقتصادي قريبة، مع استمرار وتيرة التضخم المالي العالية، وارتفاع كلفة المعيشة، وتحذير الخبيرة الاقتصادية الرئيسية، في وزارة المالية الإسرائيلية، من عجز إضافي في الميزانية العامة، على ضوء الصرف الزائد للحكومة، الذي يتصدّره دفق الميزانيات الضخمة على مؤسسات وجمهور المتدينين المتزمتين، الحريديم، علاوة على الميزانيات الضخمة أصلاً التي يتلقونها.
وكما يظهر، فإن هذا الصرف على الحريديم هو أحد أثمان تشكيل حكومة بنيامين نتنياهو، التي ترى الشرائح الوسطى والميسورة، أنه يأتي على حسابها، لتتصاعد النقمة الشعبية.
في يوم الغد من المفترض أن يقر الكنيست بالقراءة النهائية الميزانية العامة، للعامين الجاري 2023، والمقبل 2024، ويبلغ حجم الميزانية للعام الجاري حوالي 432 مليار شيكل، وهو ما يعادل حالياً أكثر من 118 مليار دولار، وفي العام المقبل 2024 حوالي 453 مليار شيكل (أكثر من 120 مليار دولار). وتشمل الميزانية في كل من العامين، ميزانية أخرى مسجلة على الورق، ليست للصرف الفوري، بقيمة 180 مليار شيكل، هي مشاريع مخططة للسنوات القريبة.