بعيدا عن السياسة.. (عيد غزة).. تعالوا أحدثكم عن (أمي) وهي تتكئ على جذع الشجرة..

إستهلال : كل الجراح ، تبقى مخبوءة على مر المواسم ..
إلى أن يجيء صبح العيد ،

ويعلن المراسم ..
تسكننا ؛ الأسئلة يا (غزة)  وفي كل جواب مواجع ..
وانت/ي التي حملت/ي فوق ضفة الجبين كرامتنا..وتحملت/ي يا (غزة) بالإنابة عنا ،  فواجع..!!
(1)
وصلت سن البلوغ والرشد ، وأتممت وقتذاك ثمانية عشر سنة شمسية..، لا إدري كيف إحتسبوا العمر ، غير أن أمي /رحمها الله/ حدثتني ذات ليلة عيد ، ان مولدك مرتبط بموته ..، وأكدت لي انه مات منذ 18 عيدا ..، وأضافت وهي تتكيء على جذع شجرة زيتون ، على بوابة البيت .. كان على وشك أن يكمل العمر ، لولا موت مباغت اختطفه..كنت وقتها
 ‐ تقول امي- انتظر عودته جالسة على مصطبة البيت العتيق ..تأخر كثيرا ، لم افقد الأمل ، شغلت نفسي بأغنيته المفضلة ..كان غالبا ما يدندن بها كلما عاد إلى البيت ..يطرق الباب الخشبي ، ويدندن :”السبت فات والحد فات وبعد بكره يوم التلات ميعاد حبيبي ..” ..، انتصف الليل ، ولم يعد ..غريب ، هو قال سآتي لكم بالخبز وأعود..لن اتأخر ..ومن يومتها راح “خيري” وما عدت شفتو..!!
لم يكن “خيري” الابن الوحيد لها ، الذي انتظرته ، ولم يعد..كانوا يتقنون وجع الغياب المباغت ، وكانت امي ، تتقن صبر الإنتظار .!!
(2)
المكان : غزة ، شارع الرشيد .
الزمان : العاشر من أكتوبر..الذي تلا السابع منه بنصر عظيم ..
صبح عيد الفطر الباكر ، شارع الرشيد على غير عادته ، وغزة تقطر طرقاتها بدماء الشهداء ، كأنه يسقي نبت الدحنون ، لينمو في كل المواسم ..ونزف الجرحى يرسم طريق النصر ..، وتعيد الأمهات اللائي ذرعن طرقات غزة للبحث عن الغياب ، حكاية وطن اسمه فلسطين..، يسطرن الحكاية ب:(نون والقلم وما يسطرون) ..ثم يواصلن المسير ب” شارع الرشيد ” المحاذ للأبيض المتوسط ..، هنا ، تكمن الحكاية ..في صبح العيد الباكر تحديدا ، يمرن من هنا نساء ، بأثوابهن المطرزة..هن ، لا يعرفن الإتشاح بالسواد ، لثقتهن ان الغائب الذي راح ، سيبقى من الخالدين في ذاكرة فلسطين..، من هنا يمرن ، ويحملن أغصان زيتون وسعف نخيل لتضليل شواهد القبور ، ويلقن تحية العيد على كل الغائبين الشهداء ..المجهولين والمعلومين..، يا نساء الحي ..، يا نساء القطاع من أين تأتن بهذا الصبر ..، ومن أين يجيء مجرى الدمع ..يا (غزة) فيك/ي نساء يشبهن (سمية بنت خياط/ ام عمار بن ياسر) ، وآخريات تعلمن الدرس الأول في الصبر على يد الخنساء ..يا هذا العيد ..أوصل دمع الشوق للبعيد..، وأسقي شجر الياسمين ، فهذا البتل ينثر شذاه على الشهيد ، مع كل فجر من جديد .!!
(3)
قلنا ، بعيدا عن السياسة ..، فهذه غزة التي تملك الفائض من الصبر ..،تعلمنا كل يوم ، كيف نرتوي من دمعنا حين يتعثر الماء في خطى الطغاة ..،وتعلمنا كيف نربط على الأمعدة لتعزيز الكرامة ..،يا مهانة العالم أمام اطفالك يا غزة ..
هنا غزة ..العاشر من نيسان ، لعام الردة الإنسانية..الساعة الان تشير الى السادسة صباحا بالتوقيت المحلي ..،البحر هاديء في موجه ، ومشهد الدمار فاق حقد الطغاة بألف مرة ..، هنا شارع جمال عبد الناصر ..يلفه الحزن على غير عادته في مثل هذا الوقت من كل عام ..، لاشيء هنا قابل للحياة ، فقط الذكريات أبت الاستسلام لموت القذائف ، بقيت كما لو انها طائر سنونو حلق فوق مستوى قذائف الطغاة ..ظلت كما هي يا غزة ..تلمع في وجدان أهل الحي ، كما لو انها شجرة صفصاف تلمع لتطفيء بريق المدافع ..!!
(4)
عيد الفطر يحل على قطاع غزة .. نزوح، ونوح، وتشريد وشهيد.. جريح يحمل نزفه..فيما تشمشم الجدة بجثث احفادها الاطفال الثلاثة في أول يوم للعيد ..، وامهات يحتضنن ملابس اطفالهن..، هل تتغير المعادلة يا غزة ويصبح الكفن، من اثواب العيد، ياااا  الله، يا وحدك يا غزة .. يا لعار الإنسانية، وانت/ي تميطين اللثام عن وجه العالم القبيح ..يا لوحدك وانت/ي تمسكين بنزفك ..أي صراخ تنحتي يا غزة ، على جدار الصامتين..، أي صبر ترسمي ..،ومن أين تجيئي بكل هذا الذهول..، يا غزة يا بحر الإرادة .. يا سهول الفاتحين.!!
كاتب وصحفي اردني..