بوفاته سلب قبس من الحرية ..ميسا جيوسي

 مر على رحيل كبير أساقفة جنوب إفريقيا ديزموند توتو بضعة أيام، ولازلنا نشهد عمق الحزن والفراغ الذي تركه غيابه عن عمر يناهز (90 عاماً) وبعد صراع مع المرض. لم يكن توتو رجل دين تحده حدود ما يؤمن به وينشره من تعاليم دين فحسب، لكن من الممكن القول بما لا يجاوره شك بأنه رجل ترك في البشرية إرثا قد ننتظر وقتا طويلا إن كنا محظوظين لنرى زخما مماثلا له. فلقد شكل وجود هذا الرجل في عالمنا نموذجا حيا لا بل حقيقيا عشناه ولمسناه في أن قضايا الشعوب العادلة لا تسقط بالتقادم، وبأن المظلومين في الأرض على قلة حيلتهم يكمن فيه من القوة والشجاعة ما يعجز الكثيرون من المقهورين في الأرض من إدراكه، وما يمكنهم ان هم إستغلوا الخروج من نفق الظلم لفسحة الحرية والحياة الكريمة. وليس أدل على هذا من ما قام به هذا الأسقف الجنوب إفريقي وغيره من أبناء وطنه المقهورين من مقارعة نظام الفصل العنصري الذي وصفه توتو في أكثر من مناسبة بأنه نظام “شيطاني لا أخلاقي”. فلقد عمل توتو جنبا إلى جنب وأحد اهم رموز الكفاح ضد نظام الفصل العنصري نيلسون مانديلا في دعم كل ما كان من شأنه إيصالهم لإنهاء سياسة الفصل العنصري والتمييز التي فرضتها حكومة الأقلية البيضاء على الأغلبية في جنوب أفريقيا. ولقد إستمر  توتو وأبناء شعبه بمقارعة هذا النظام حتى شهد العالم بأسره إنتهاء حقبة التمييز العنصري في جنوب إفريقيا والتي إمتدت من عام 1948 وحتى 1991. لكنه لم يقف عند تلك المحطة فحسب، بل تجاوزها ليعمل بشكل جدي على إستعادة أبناء جنوب إفريقيا لوطنهم والسيطرة على مقدراتهم بأفضل شكل ممكن. فرأيناه يتظاهر في كثير من المناسبات ضد السيطرة العنصرية للعرق الأبيض على مقدرات بلاده بعد إنهيار نظام الفصل العنصري. ووقف بشكل صلب ومتين ضد الظلم وعدم المساواة. ولعل هذا لم يكن فقط ما أوصل الأسقف توتو لما وصل إليه من عالمية الشهرة كأيقونة لمقارعة الظلم والتمييز العنصري بل تعداها لقضايا تشكل تحديات عالمية لا حدود لها لاقت صدى في كافة أرجاء المعمورة وذلك لأنها تمس كل المقهورين في العالم كقضايا الفقر، والإحتلال، والتمييز العنصري وقضايا التغير المناخي ومكافحة الإيدز وأسلحة الدمار الشامل. وكان لسان حال هذا البطل في كل مكان صال وجال فيه ينادي بالعدالة بأن يقول ” تذكروا ان البحر مكون من قطرات من المياه وكل ما يقوم به كل انسان في أي مكان يحدث أثرا في العالم كله” . في إشارة لأهمية الإيمان بالقضايا العادلة وضرورة العمل الدؤوب نحو إحقاق الحقوق وإسترداد ما سلب منها. بل وضرب أروع الأمثلة في المقاومة السلمية التي قال عنها في حينها بأنها مكنت شعبه من إستعادة حقه في أرضه في مواجهة أحد أعتى أنظمة الفصل العنصري في زمننا سلاحة وعتاد. 
وقد كان لما تمتع به هذا  الرجل من شجاعة أخلاقية جعلت من إنجازاته دربا يسير عليه المقهورين نحو شعاع من الأمل بحياة كريمة تخلو من الظلم والتمييز وكان هذا سببا من عدة أسباب أوصلته للحصول على جائزة نوبل للسلام في العام 1984 والتي قال عنها حينها إنها ليست جائزة لي وإنما للبشرية التي تنتصر للحق والخير والعدالة. فلقد كان محبا للسلام مناديا به بما لا يتجاوز حقوق أحد وكان واضحا فيما لا لبس فيه بأن السلام لا يكون إلا بالعدل وإحقاق الحقوق. كان توتو سفيرا للحق والخير وتواجد في كل مكان كانت فيه للظلم وجود فرأيناه في غزة وفي دول إفريقية وحول العالم بما لاحدود له وقد إعتزل توتو الحياة العامة في العام 2010.
لعل إنجازات هذا الرجل البطل المتحلي بشجاعة أخلاقية عز مثيلها، تعد خسارته خسارة للبشرية التي تنزف دما في كل يوم تحت وطأة الحروب الضارية ونظم التمييز العنصري وتحديات المناخ المتسارعة بلا توقف وحمى إنتشار الأسلحة المدمرة بلا ردع ولا رقيب. نختم بما كان يقوله هذا الرجل بأن “الحقيقة تحدث صدمة وليس من السهل التسامح والتجاوز، لكن هناك دوما فرصا لفتح أبواب نحو بدايات جديدة”. لروحك السلام والرحمة ولعالمنا المضطرب من بعدك أياما قد تكون أفضل مما نحن عليه.