فوق الانقسام السياسي الذي قصم ظهرنا، وأضر بقضيتنا وأفقدها جزءاً من قوتها الأخلاقية، نحن أمام انقسام أخطر يكاد يتشكل أمام أعيننا ونصنعه بأيدينا، وهو الانقسام المجتمعي على مستوى الوعي والمشاعر والرؤى.. وقد تجلى بصورة مركزة في الآونة الأخيرة بتولّد سرديات متناقضة ومتواجهة يحاول كل طرف الادعاء بامتلاك الحقيقة وتمثُّل الوطنية وسلبها عن الآخر.. أو احتكار الإحساس بالألم الإنساني، أو تقديم التضحية مقابل شيطنة الآخر.
أول سجال نشأ مع اندلاع الحرب العدوانية لتُبنى على إثره سردية احتكار المقاومة وحصرها في شكل وقالب واحد ووصف الآخرين بالمتخاذلين، مقابل سردية الحسابات العقلانية، وتعدد أشكال المقاومة واختيار الأنسب منها.. وسيظل هذا السجال مفتوحاً رغم توضح النتائج.
بمجرد الإعلان عن وقف إطلاق النار ثار سجال آخر حول ثنائية الانتصار والهزيمة (وهو سجال مشروع طالما أن كل طرف لا يشيطن الآخر)، وبموازاته نشأ خلاف حاد حول «الفرح» بتوقف الحرب، والاحتفال بالحياة مقابل الشعور بالحزن على الشهداء والبيوت المدمرة. وحول البهجة والاحتفال بتحرر الأسرى مع ضرورة مراعاة مشاعر أهالي الشهداء.
ونخشى أن تتحول هذه السجالات إلى شقاق يعمق الانقسام ويولّد الأحقاد.
انتصرنا أم هُزمنا؟ هذا سؤال ملغوم، لأنه لا يحتمل الإجابة بنعم أو لا، بل يحتاج إلى إجابة متأنية، ولن نصل لإجابة دون أن نتحرر من سطوة العاطفة. فالقول إننا لم ننتصر، سيفسد فرحة الكثيرين، وتلاوة بيان النصر ستستفز كثيرين أيضاً، لأنهم يرون غير ذلك، ولأنهم مكلومون، ولا يجدون بيتاً يحتفلون به بهذا النصر، ولأنهم فقدوا أياديهم في الحرب، ولم يعد بمقدورهم التصفيق.
قديماً، كانت الحرب تقتصر على جيشين متقابلَين، يصفّي أحدهما الآخر وينتهي الأمر، اليوم تغير شكل الحروب، وتغير معها مفهوم النصر، رغم أن الحروب، وعلى مر التاريخ، لم تعطِ نصراً مطلقاً؛ ولا هزيمة مطلقة. المشكلة الأكبر عندما تكون المعركة بين جيش نظامي ضد شعب، حيث تصبح الحسابات معقدة، لأن الجيش لا يمكنه ادعاء النصر الكامل إلا إذا نجح بتصفية خصمه، أي إبادة الشعب كاملاً.
وحسابات النصر والهزيمة لا تتم وسط ضجيج المعارك، ولا تُفهم فقط من خلال لغة الأرقام، بل تُسجَّل في المحصلة النهائية بعد انقشاع غبار المعارك، وما يتمخض عنها من تفاهمات واتفاقات، والأهم أن مفاهيم النصر والهزيمة يجب احتسابها «وطنياً»، وليس «حزبياً»؛ فانتصار حزب لا يعني بالضرورة انتصار الوطن.
قد يُهزم الجيش أو القوات المقاتلة وهذا وارد جداً، لكن الشعوب الحية لا تُهزم، خاصة إذا عرفت كيف تتعامل مع الهزيمة العسكرية؛ فقد تعرضت ألمانيا واليابان لهزيمة عسكرية ساحقة، ووقّعتا معاهدة استسلام، إلا أن الشعبين تخطّا البعد النفسي السلبي للهزيمة، واجترحا معجزة الانبعاث، وها هما الآن ثالث ورابع قوة اقتصادية في العالم، وينعمان بالأمن والاستقرار.
النصر الواضح لا يحتاج لسؤال «انتصرنا، أم لا؟»، النصر الحقيقي تظهر تجلياته فوراً، وبشكل تلقائي، وتعبّر عنه ردات الفعل الشعبية العفوية، قبل أن يخرج أي قائد ليتلو بيان النصر..
في العدوان على غزة يصعب القول، إن إسرائيل انتصرت – رغم الخسائر الفادحة في الأرواح والممتلكات التي ألحقتها بالجانب الفلسطيني، ورغم تفوقها العسكري الكاسح – بل إنها هُزمت أخلاقياً. وكل حرب لا أخلاقية يخوضها جيش الاحتلال تكشف للعالم حقيقة هذا الكيان، وتقرب من نهايته.
كما يصعب القول، إن المقاومة ألحقت هزيمة بإسرائيل، أو إنها أنجزت نصراً عظيماً.. وهذا ليس بسبب التفاوت الكبير في أعداد الضحايا وحجم الخسائر على الجانبين؛ بل وأيضاً في شروط وكيفية وقف الحرب، وصيغة التفاهمات التي تمّت. لكن في العقل الأيديولوجي وخطاب الشعارات أي مواجهة مع جيش الاحتلال انتصار، وهزيمة منكرة لإسرائيل.. حتى فرحة الناس بنجاتها تصوره انتصاراً تاريخياً! فإذا كانت كل هذه الهزائم قد لحقت بإسرائيل، فكيف نفسر تفاقم بؤس واقعنا وضعفنا، مقابل قوة إسرائيل المتزايدة، وتفوقها على كافة المستويات، وزيادة غطرستها وشراستها وعدوانيتها!
بعد إعلان وقف النار وُضع أهالي غزة في امتحان قاسٍ وبالغ الصعوبة، لقد انقسم الغزي حرفياً إلى نصفين: نصفه فرح بنجاته ونجاة من تبقى من عائلته، ونصفه الآخر حزين على ما آلت إليه الأمور.. لماذا يفرح إنسان في منتصف عمره بنجاته؟ أليس من المفترض أن يمتد به العمر ويعيش بشكل طبيعي؟ كيف وصل الغزي إلى لحظة صار فيها مجرد بقائه حيّاً إنجازاً كبيراً يستحق الاحتفال؟ والأنكى من ذلك أنَّ مشاعره متناقضة بين فرحه بنجاته من القتل، وبين حزنه على من فقدهم، وعلى منزله وحارته التي صارت أثراً بعد عين.
في الضفة الغربية الصورة لا تقل بؤساً وغرابة، فكيف لا يفرح الأسير بتحرره من السجن؟ كيف نطالب أمه التي عانت بما يكفي وأهله الذين انتظروه طويلاً ألا يفرحوا بابنهم؟ وكيف يسيطر الإنسان على مشاعره وسط الجموع المنفعلة في لحظة مفعمة بالمعاني العاطفية والإنسانية وطال انتظارها؟ كيف سيراعي مشاعر الأهل الذين فقدوا بيتهم وأبناءهم مقابل تحريره من الأسر؟ إنها معادلة معقدة، تعبر عن مأساة الشعب الفلسطيني، التي لا تشبهها مأساة.
صحيح أن تحرير كل أسير دُفع ثمنه بالدماء الغالية، ولو سألت أي أسير: هل تقبل حريتك مقابل مقتل شخص واحد؟ لن يقبل، فما بالك إذا كان الثمن خمسين ألف روح أُزهقت ظُلماً وعدواناً؟
قضية الأسرى مقدسة في الإرث الكفاحي الفلسطيني، وكل أسير يستحق أن ننحني له خشوعاً وتقديراً، وحريتهم يجب أن تظل في مقدمة أولوياتنا.. لكن البعض (ودون إذن من الأسرى) تاجر بقضيتهم بحسابات سياسية خاطئة، أو بغرض زيادة شعبية حزبه، أو للتغطية على النتائج الكارثية لمغامرته العسكرية.
نفرح بتحرر كل أسير، ونبتهج بتوقف العدوان، وبنجاة من تبقوا من أهلنا في غزة.. لكن الأهم التفرغ للمرحلة المقبلة.. في غزة سيكون عليهم مواجهة معركة الحياة، وهي أشد صعوبة من معركة مواجهة الموت.. وفي الضفة علينا أن ندرك أن وقف إطلاق النار فقط في غزة، وسيواصل الاحتلال حربه وعدوانه على سائر فلسطين، بالنهب والضم والتهويد والقتل والهدم والتشريد.. وهذه معركة تحتاج للوحدة الوطنية والعض على الجراح.