تدمير الحرب لمظاهر الطبيعة في غزة..حماد صبح

لم تسلم الطبيعة في غزة من تدمير الحرب لمظاهرها تربة وشجرا وهواء وطيورا. التربة أفسدت كثيرا منها المواد السامة التي تتخلف عن القصف الجوي والمدفعي والإطلاق المكثف للرصاص بأنواعه. وحدث للهواء نصيبه من البلاء. خالطه الفساد، وكثرت مع فساده الأمراض الجلدية والصدرية وأمراض العيون. والشجر، يا لهول ما نكب به الشجر فوق نكبته من آثار القصف الشامل.
دائما تتقدم الجرافات العملاقة الأميركية الصنع دخول دبابات العدو وآلياته أي مكان. تجرف الشجر ومزارع الخضراوات. وغاية التجريف أبعد من توفير الحماية لقواته من رجال المقاومة. غايتها الأخرى تدمير الحياة الطبيعية والاقتصاد ومصادر الرزق للفلسطينيين، وجعل الأرض جرودا خالية من روح الحياة ووسائلها أملا في تهجير أكبر عدد منهم. هذا الحلم القبيح اليائس الذي يسرح ويمرح ليل نهار في نفوس قادة الكيان الإسرائيلي ومستوطنيه بصفته حلم حياة أو كابوس موت، وهو حتما بإذن الله من الصنف الثاني؛ كابوس موت.
والشجر الذي لم يجرفوه أصابت بعضه قذائفهم الجوية والبرية، فكسرت كل أغصانه أو كسرت بعضها. والسار الناهض بالأمل أن ما بقي من الشجر المصاب تنبعث فيه البراعم التي تتحول سريعا إلى أماليد غضة في سبيلها لتكون غصونا تزهر وتثمر وتُظل. قال _عز من قائل _ : ” اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها”.

وتجريف آبار المياه، وفرار الناس ؛ حرما الشجر الماء، وأعقب ذلك الحرمان شتاء قليل المطر، فأنجم كل ذلك قلة الثمار وصغر حجمها، والأسوأ أنه أنجم جفاف بعض الشجر. والزراعة جانب من الطبيعة، ولو أنها في أهم أبعادها نشاط اقتصادي معيشي. وقلل تجريف الآبار وفرار المزارعين من أرضهم الإنتاج الزراعي تقليلا كبيرا خطيرا، وبعد أن كانت غزة تصدر الخضراوات باتت في الحرب تستوردها من مصر والضفة الغربية وإسرائيل، وبعد سيطرة الأخيرة على الجانب الفلسطيني من معبر رفح توقف الاستيراد من مصر. وأسعارها فاحشة في أوقات كثيرة، وبعضها سيء النوعية، وبعضها يأتي تالفا أو شبه تالف. ومنع سكن المشردين في مساحات واسعة من الأراضي الزراعية أهل هذه الأراضي من زراعتها، فانعدم إنتاجها. وفعلت الحرب المجنونة العمياء فعلها في الطيور، فلم تهاجر إلى ربوع غزة في موعدها الموسمي السنوي.
 كيف تهاجر وهي الكائنات الضعيفة الحساسة إلى ربوع تدوي فيها أصوات القصف والموت برا وبحرا وجوا ؟! وفوق ذلك هلاك البيئة الشجرية الطبيعية الحاضنة لها ؟! وكانت السنوات الأخيرة شهدت استقرار عدد قليل من الطيور المهاجرة في غزة، واتخاذها مقاما دائما. ومن هذه الطيور صنف في حجم الزرزور، وطائر أكبر حجما من الحمام، ويجمع في لونه بين الرمادي والأبيض والأسود، وله صوت زاعق خشن، ومن صفاته السلوكية كثرة عراكه مع الغربان. وكنت كتبت نصف هذا المقال على الحاسوب في التاسع من أغسطس الفائت بعد كتابته كاملا على الورق، وبغتة، ضحى، بدأ العدو حزاما ناريا على المنطقة، وانبث نبأ إعلانها منطقة قتال خطير ! فبارحها من فيها. وتقدمت قواته شرقي دير البلح، واجتازت شارع صلاح الدين غربا. وفي التاسع والعشرين من الشهر ذاته أعلن نبأ خروجها منها، فعدنا إليها مبتهجين متوجسين.
ويا لهول ما كان فيها من خراب! حارتنا نسفت كاملة سوى بعض بيوت صغيرة، وبعض بيوت كبيرة هدمت جزئيا. وأكثر الشجر كان مجرفا مبعثرا ومكدسا. ونسف بيتي بطابقيه، ولم يبق من شجر زيتوننا سوى شجرة واحدة تكدس حولها الشجر المجرف جافا مغبرا. وما نجت مكتبتي الكائنة جنوب غربي البيت منفصلة عنه من كارثة التجريف. دفنت كتبها المحفوظة في خمس خزائن تحت التراب والحجارة، وكتبها بالعربية والإنجليزية والفرنسية، وتحسب قيمتها بحوالي 80 ألف دولار. واستطردت لهذا الجزء من المقال بيانا لما حدث للطبيعة والبيئة والعمران في الأيام العشرين التي بارحنا المنطقة إبانها. وبعد العودة لمحت طيرا خريفيا من فصيلة الصُرْد.
ابتهج قلبي المكتئب المغموم، وخاطبته في حب كأنما أخاطب إنسانا ! وأدهشني وأبهجني أنني رأيت بعد يومين طائرا جديدا لم أره من قبل. وغردت روحي فجر الحادي والعشرين من أيلول الحالي، موعد بدء الخريف فلكيا، حين لمحت طائر أبي الحناء الصغير بلونه الزيتي وصدره الأحمر. إنه من الطيور التي تهاجر إلى بلادنا الحبيبة في مثل هذا الوقت من كل عام.
 وخاطبته في حب وود. وهو يحب العيش والاسترزاق في حضن الأسيجة. وما ترك له العدو هذا العام في المنطقة من سياج سوى ما ندر وما بعد. ومن حبي لهذا الطائر كتبت قصة ” صديقي أبو الحناء ” التي نشرت في مجموعتي ” مكان ” التي أصدرها عن اتحاد الكتاب والأدباء الفلسطينيين. وأسقي يوميا بالجردل الزيتونة التي سلمت من وحشية التجريف وهمجيته. وبصرت بما سرني وألهج لساني بتسبيح الخالق الذي يحيي رميم العظام. بصرت بأماليد ثلاث زيتونات بزغت خضراء متألقة على أصول سوقها المهشمة بين كسائر الحجارة والملابس والخشب، فسارعت إلى تنظيف منابتها، وسقيها يوميا، وهي تنمو الآن مسرعة متحدية، ومصرة على الانبعاث والحياة بما أودع الله _ تبارك وتعالى _ في كيانها من قوى ذاتية تؤكد إرادته في عمران الكون، وسخطه ونقمته على قوى الخراب والشر فيه. إنها قوة الحياة هبة الله، وهذه القوة لن تبارح بلادنا الحبيبة بشرا وشجرا وحجرا، ودائما قوى الخراب والشر إلى فناء واندثار، وقوى العمران والخير إلى بقاء ونماء وازدهار. وسلاما وحبا وأمنا لكل إنسان وشجرة وطير وحجر قفي ربوع فلسطيننا الحبيبة وغزتنا المتأبية الظافرة أزلا وأبدا.
كاتب فلسطيني مقيم في غزة