هآرتس- بقلم ينيف كوفوفيتش–
بدا هذا مثل بيان عادي آخر للمتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي. بعد إطلاق صاروخ من قطاع غزة على عسقلان، قيل: “لقد تم تشخيص المخرب الذي نفذ الإطلاق، وقامت طائرة من سلاح الجو بمهاجمته وتصفيته”. للوهلة الأولى، هذا مثل سطر في إحصاء رجال حماس القتلى.
لكن ظهر قبل أسبوع ونصف، توثيق جديد للحادث بثته قناة “الجزيرة”. هناك شوهد أربعة أشخاص وليس شخصاً واحداً. لقد ساروا معاً بملابس مدنية في طريق ترابية واسعة في خان يونس. لم يكن حولهم أحد، إلا بقايا بيوت عاش فيها بشر ذات يوم. هدوء شديد خرقه انفجار ضخم مرة واحدة، قتل اثنان على الفور، وأصيب آخران حاولا مواصلة السير، ربما اعتقدا أنهما نجيا، لكن تم القاء قنبلة على واحد منهما بعد ثوان، وسقط الآخر على الأرض. سمع انفجار آخر، ثم شوهدت نار ودخان مرة أخرى.
في هذه الأثناء، جاء عن المتحدث بلسان الجيش الإسرائيلي بأن الفيلم تم تحويله للفحص في أجهزة التحقيق بهيئة الأركان. “هذا حادث سيئ جداً”، قال للصحيفة ضابط رفيع. “لم يكونوا مسلحين، ولم يعرضوا القوات للخطر في المكان الذي ساروا فيه”. إضافة إلى ذلك، قال ضابط في الاستخبارات مطلع على الأمر بأنه لم يكن من المؤكد تماماً من هو المسؤول عن إطلاق الصاروخ. حسب قوله، كانوا الأقرب من موقع الإطلاق، ربما هم مخربون أو مجرد مدنيين يبحثون عن الطعام.
هذه القصة مجرد مثال واحد كشف عنه يبين الطريقة التي يقتل فيها الفلسطينيون بنار الجيش الإسرائيلي في القطاع، والأسلوب الذي يتم فيه إحصاء هؤلاء القتلى. تم تقدير عدد القتلى الفلسطينيين في الحرب بـ 32 ألفاً، منهم نحو 9 آلاف مخرب، حسب بيانات الجيش. ولكن عدداً من القادة في الخدمة النظامية والاحتياط، الذين تحدثوا مع “هآرتس” يثيرون شكوكاً كثيرة بشأن مصداقية هذا العدد وبشأن إن كان هؤلاء من المخربين.
يتبين من أقوالهم أن التعريف في هذا الموضوع خاضع لتفسيرات كثيرة. من غير المستبعد أن الفلسطينيين أيضاً، الذين لم يلمسوا سلاحاً يوماً ما، تم رفعهم عند موتهم إلى مستوى “مخرب”، على الأقل حسب الجيش الإسرائيلي. “المخرب”، قال ضابط احتياط خدم في القطاع، “هو أي شخص قتله الجيش الإسرائيلي في الفضاء الذي تحارب فيه القوات”.
بيانات الجيش ليست سرية، بل العكس، تحولت على الأغلب إلى مصدر للتفاخر، وربما الأقرب إلى صورة النصر التي حققتها إسرائيل منذ بداية الحرب. ولكن هذه الصورة، قال ضابط رفيع في قيادة المنطقة الجنوبية ومطلع على الموضوع جيداً، ليست صورة أصيلة. “من المدهش سماع تقارير بعد كل نشاط، تتحدث عن عدد المخربين الذين قتلتهم قواتنا”، قال. “بعد نصف سنة من القتال، لا يجب أن تكون عبقرياً لتفهم بأن خان يونس أو جباليا تخلو إلا من عشرات أو مئات المسلحين الذين يركضون في الشوارع يحملون السلاح ويحاربون الجيش الإسرائيلي”. إذاً، كيف تبدو صورة المعارك في القطاع؟ حسب ضابط الاحتياط الذي كان هناك “على الأغلب هناك مخربون، اثنان أو ثلاثة، يختفون في مبنى، ولا يكشفهم إلا جنود لديهم وسائل خاصة وحوامات”.
مهمة هذا الضابط كانت إرسال عدد المخربين الذين قتلوا في المنطقة التي حاربت فيها قواته إلى المستوى الأعلى في القيادة. “ليس هذا هو التحقيق الذي يطلبون فيه منك إحضار كل الجثث”، يشرح. “يسألون كم، أذكر العدد الذي أعرفه مما نشاهده ونعرفه على الأرض، ثم نمضي”. أراد التأكيد على أن “هذا لا يعني أننا نخترع جثثاً، لكن لا أحد يعرف بالضبط من هو المخرب ومن أصيب بسبب دخوله مجال القتال”. هناك عدد من ضباط الاحتياط والجنود الذين كانوا في القطاع في الأشهر الأخيرة أشاروا إلى السهولة التي يدخل فيها قتيل فلسطيني إلى فئة معينة بعد موته. يبدو أن السؤال ليس ما الذي فعله، بل أين قُتل.
في قلب منطقة التدمير
فضاء القتال مفهوم أساسي. يدور الحديث عن منطقة تتمركز فيها قوة، على الأغلب في بيت مهجور، وتصبح المناطق المحيطة به منطقة عسكرية مغلقة، لكن دون علامة بارزة للعيان. وثمة مفهوم آخر بشأن هذه المناطق، وهو “مناطق التدمير”. “في كل فضاء للقتال، يحدد القادة مناطق التدمير”، شرح ضابط الاحتياط، وأضاف: “المعنى هو خطوط حمراء واضحة محظور على أحد، الذي ليس جزءاً من قوات الجيش الإسرائيلي، الدخول إليها كي لا نسمح بالمس بقواتنا في المكان”.
حدود مناطق التدمير هذه لا تحدد مسبقاً، بل حسب ظروف المنطقة، والبعد عن المبنى الذي تتمركز فيه القوات وأيضاً الارتفاع. لكل قوة منظومة نقاط مراقبة في القطاع وخارجه تشخص هذه التهديدات. ولكن حدود المجال والإجراءات الدقيقة بخصوص العملية تخضع لتفسير قادة الخلية القتالية. “في اللحظة التي يدخل فيها أشخاص، بالأساس رجال بالغون، إلى منطقة التدمير”، يتابع ضابط الاحتياط، “فالتعليمات هي تنفيذ إطلاق نار، والقتل، حتى لو كان المشتبه فيه غير مسلح”.
إن مأساة قتل المخطوفين الثلاثة على يد الجيش الإسرائيلي هي قصة من هذا النوع. فعند هربهم من آسريهم، دخل الثلاثة إلى منطقة التدمير في حي الشجاعية بغزة. “الكتيبة 17 تدافع عن المحور الذي يشكل محور إخلاء ومحوراً لوجستياً للفرقة”، قال قائد اللواء المسؤول عن القوة، العقيد إسرائيل فردلر. “مجال الرؤية ومناطق التدمير هي في المسافة الأقرب لقواتنا”. نهاية هذه القصة معروفة وأيضاً حقيقة أنه كان هناك انحراف كبير عن الإجراءات، التي أعيد توضيحها فيما بعد.
في المنطقة التي فيها الآن احتمالية معقولة لوجود مخطوفين، تكون النشاطات وفقاً لذلك، والغرف في هذه المنطقة يتم تفجيرها من الجو. ولكن ما يحدث في مناطق أخرى أمر أقل تنظيماً، ومن غير الواضح كم عدد المدنيين الفلسطينيين الذين أطلقت النار عليهم وقتلوا عندما دخلوا إلى هذه المناطق وهم غير مسلحين.
“الشعور الذي تولد لدينا هناك هو أنه لم تكن هناك أوامر لفتح النار”، قال جندي في الاحتياط، الذي قاتل في شمال القطاع حتى فترة متأخرة. “لا أتذكر أنهم نزلوا معنا إلى دقة عالية تتم فيها رؤية كل حادثة”. هذه الأمور تتساوق مع انطباع توصل إليه مصدر أمني رفيع، الذي قال “يبدو أن هناك الكثير من القوات القتالية التي تقرر أن تكتب لنفسها تعليمات حول فتح النار”.
المصدر الأمني الرفيع قال للصحيفة بأن هذا الموضوع وصل في بداية الحرب إلى رئيس الأركان، هرتسي هليفي؛ عندما أدركت هيئة الأركان أن أوامر فتح النار في القطاع تخضع لتفسيرات القادة. “رئيس الأركان خرج بالصورة الأكثر وضوحاً، وهي أنه يعارض قتل كل من يدخل إلى مناطق القتال، وتطرق إلى ذلك في خطاباته”، قال المصدر الأمني. “لكن للأسف، هناك قادة، حتى قادة كبار، يفعلون كل ما يخطر ببالهم في داخل القطاع”.
لكن، أيضاً الآن التعليمات هي إطلاق النار على كل من يقترب من القوات في مجال القتال. وعندما يكون الاقتراب ذاتياً فكم غير المفاجئ أن هذا الرقم يخضع لتفسيرات واسعة على الأرض. ضابط في الاحتياط، يشغل منصباً مهماً في القيادة المتقدمة في أحد ألوية الاحتياط التي قادت القتال في شمال القطاع، قال إنه يبدو أن السن والتجربة تلعب دوراً هنا. “الجنود النظاميون يدهم أسرع على الزناد من جنود الاحتياط”. هو نفسه تعرض لحالة كان يمكن بسهولة أن تنتهي بقتل أبرياء.
“لاحظنا مشبوهاً كان ينوي الدخول إلى منطقة قتالنا، وكانت مسيرتنا في الجو وجاءت مصادقة على قتله. فجأة، في اللحظة الأخيرة، شاهدنا ومن يشغل المسيرة بأن هذا الشخص دخل إلى شارع فيه عشرات الأشخاص”، كان هذا على بعد بضعة أمتار عن منطقة القتال، حيث تم اكتشاف سوق فيه بسطات وأطفال يركبون على دراجات. “لم نعرف بوجود مدنيين هناك”، قال. في لحظة تقرر وقف الهجوم، وكما يبدو منع حدوث كارثة.
“لا شك أن هناك قوات كانت ستطلق النار من المسيرة”، قال الضابط. “الوقت دائماً متوتر بين الحفاظ على القوات التي هي في المقام الأول على رأس سلم الأولويات، وبين وضع نحاول فيه تجنب القتل الزائد للمدنيين”.
داخل هذه الفوضى يتم إعطاء وزن ضئيل لتقدير القادة في الميدان، سواء كان الحديث عن قائد لواء أو قائد كتيبة أو قائد فصيل، هكذا قال الكثير من الجنود الذين تحدثوا مع “هآرتس”. حسب أقوالهم، هناك قادة أطلقوا النار على شخص مشبوه في داخل مبنى، حتى لو كان حوله مدنيون. وهناك من تصرفوا بطريقة مختلفة. في هذه المحادثات مع مصادر أمنية مختلفة، ضباطاً وجنوداً، تكرر طرح معضلة المواطن (أو معضلة المخرب). كيف نشخص ما إذا كان الحديث يدور عن خطر، وكيف نعرف إن كان الوقت المناسب لننتظر لحظة ولا نسارع إلى إطلاق النار؟
التوجه إلى القادة قد يقدم إجابات مختلفة، هذا يتعلق بالإنسان وبالوضع. “من ناحية القادة، إذا لاحظنا أحداً في الفضاء الذي نعمل فيه وهو لم يكن من قواتنا، يقتضي الأمر إطلاق النار من أجل القتل”، قال جندي في الاحتياط عن تجربته. “لقد قالوا لنا بشكل صريح بأنه حتى في الحالة التي يهرب المشبوه فيها إلى مبنى يؤوي أشخاصاً، عندها يجب إطلاق النار على المبنى وقتل المخرب حتى بثمن المس بأشخاص آخرين“.
اختبار الوقت
على الورق، المواطنون في القطاع يعرفون الأماكن التي هي تحت حالة منطقة نيران، وأن عليهم المكوث في محميات إنسانية وحولها، وهي المناطق التي لا تحدث فيها قوات الجيش الإسرائيلي قتالاً. ولكن اختبار الزمن مهم هنا أيضاً. بعد مرور نصف سنة على الحرب، قال ضابط في المقر المتقدم: “لو بقينا هناك شهراً أو شهرين لكان يمكن الالتزام بالقرار القاضي بإلحاق الأذى بكل من يقترب. ولكننا هناك منذ ستة أشهر، وعلى الناس البدء في الخروج، هم يحاولون البقاء على قيد الحياة، وهذا يقودنا إلى أحداث صعبة جداً”.
هذه الأحداث القاسية تقلق حتى الإدارة الأمريكية، التي طلبت من إسرائيل في الأسابيع الأخيرة ممارسة سياسة نيران بصورة أكثر مسؤولية تجاه السكان. ولكن ضابطاً في الاستخبارات هو في قلب الحدث، قال إن “ما يحدث في شمال القطاع لا يجب أن يقلق الأمريكيين، بل دولة إسرائيل”. وحسب قوله “في شمال القطاع الآن نحو 300 ألف مواطن، معظمهم يتجمعون منذ بداية الحرب في مناطق يعتبرها الجيش ملاجئ إنسانية. “هؤلاء هم الأكثر ضعفاً في غزة، لا يملكون مالاً يساعدهم ليتجهوا إلى الجنوب واستئجار شقة أو غرفة أو حتى إمكانية الحصول على خيمة”، قال.
الوضع في هذه المحميات، أضاف، صعب جداً. من بقوا هناك يتشاجرون على الطعام ومكان النوم. وحسب قوله، هذا تحول إلى صراع الحياة والموت، الذي يزداد فيه العنف ويختفي النظام. إضافة إلى ذلك، “في أجزاء كثيرة في شمال القطاع هناك مواطنون لا ملاجئ إنسانية لهم”، قال ضابط رفيع في الجيش شارك في القتال. “بعضهم دخلوا إلى البيوت للحفاظ على ممتلكاتهم من السرقة وخوفاً من أن يسيطر أحد على البيت أثناء هربهم”.
لذا، الذين في بيوتهم خارج المحميات التي يتجنب الجيش الإسرائيلي العمل فيها يتعرضون لخطر واضح. “يمكنهم المكوث في مبان مجاورة للمنطقة التي فيها الجنود”، قال الضابط الرفيع. “إذا شخصهم أحد ما فسيصابون على الأغلب”. أحياناً لا يعرفون أنهم يشكلون خطراً. مثلاً، هناك تعليمات لدى الجيش الإسرائيلي لتجنب الصعود على أسطح المباني، ومن يصعد سيطلق النار عليه. والضابط الرفيع قدر بأن هناك حالات أول فيها المواطنون الوصول إلى أماكن اعتقدوا أن الجيش كان فيها وغادرها، وربما ترك وراءه طعام. “عندما كانوا في الطريق إلى هذه الأماكن، تم إطلاق النار عليهم خوفاً من محاولة الوصول إلى القوات والمس بها”. قال الضابط.
وتحدث ضابط مع “هآرتس” عن مصدر آخر لزيادة الاحتكاك مع المدنيين. ففي الأسابيع الأخيرة بقي الجيش الإسرائيلي ثابتاً في أجزاء كبيرة داخل القطاع بدون تقدم للقتال في مناطق جديدة. “بدلاً من البدء في إعادة الترميم ونشر هؤلاء الأشخاص داخل المدارس (الملاذات)، عندها يدخل الجنود ثانية إلى هذه الأماكن التي تحولت إلى أكثر اكتظاظاً، بسكان ليس لهم شيء يخسرونه”، قال ضابط في الاحتياط خرج مؤخراً من القتال في الشجاعية.
نفس هذا الضابط يعتقد أن لدى الجيش الإسرائيلي، وبالإجمال جهاز الأمن، تصوراً واضحاً بأنه يتعين على إسرائيل في نهاية الحرب مواجهة هذه الأحداث وتداعياتها أمام المجتمع الدولي. في غضون ذلك، يعمل في الميدان طاقم تحقيق من هيئة قيادة الأركان، الذي يرسل استنتاجاته للنيابة العسكرية. ولكن عندما لا يعرف الشخص كم عدد المخربين الذين قتلوا وكم عدد المدنيين الذين اعتبروا مخربين، فيبدو أن عمل هذا الطاقم غير سهل.