تـقـديـر مـوقـف…

تـقـديـر مـوقـف…

2024 Aug,06

إذا صدقنا كلام وزير الخارجية الأميركية، بلينكن، فقد بدأ العد التنازلي لضربة إيرانية متوقّعة لإسرائيل منذ صباح الاثنين. وهذا يعني أن الحرب قد تندلع حتى قبل خروج «الأيام» من المطبعة صباح هذا اليوم. لذا، ثمة ما يبرر تحويل هذه المعالجة إلى نوع من تقدير الموقف الاستراتيجي العام، بدلاً من الاستطراد في تحليل اليمين الجديد وتحوّلاته في الغرب الأوروبي والأميركي، كما فعلنا على مدار أسابيع مضت.

يبدأ تقدير الموقف، هنا، من فرضية أن رئيس الحكومة الإسرائيلية، نتنياهو، يسعى لانتزع نصر من فم الهزيمة، كما فعل تشرشل، في الحرب العالمية الثانية، عندما لاح شبح الهزيمة، وصارت عاصمة الإمبراطورية، لندن، تحت رحمة سلاح الجو الألماني. 
المقارنة فاسدة. ومع ذلك: لم تكن إشارته إلى عبارة ذائعة الصيت لتشرشل give us the tools and we finish the job في الكونغرس الأميركي مسألة عابرة، فالإشارة نفسها انطوت على اعتراف يندرج في باب المسكوت عنه، حين قارن نفسه، شاخص النظر إلى هزيمة في الأفق، برئيس الوزراء البريطاني: فانتصار المذكور لم يكن مشروطاً بالإرادة الذاتية وحسب، بل وبانخراط الأميركيين في الحرب، أيضاً. ناهيك عن حقيقة أن انتصار تشرشل لم يحل دون خسارة التاج البريطاني لمستعمراته بعد الحرب.
أعرفُ مما يُنشر على وسائل التواصل الاجتماعي، أن البعض يتكلّم عن انتصار حماس، وأن محللاً عسكرياً هو اللواء الدويري (رأيت بعض تعليقاته على اليوتيوب، فقط) يفعل هذا بلغة عسكرية، أيضاً، فيرد عليه الغاضبون بشواهد حرب الإبادة على الأرض. ولا يخلو الأمر من ضربات تحت الحزام يسددها ذباب إلكتروني يشتغل عند إبراهيميات صارت مفضوحة، تلوم الضحايا، وتسخر من عذابات الفلسطينيين.
والواقع أن الكلام عن مسعى نتنياهو لانتزاع نصر من فم الهزيمة في واد، والكلام عن انتصار لحماس، في واد آخر. لذا، للهزيمة التي نتكلّم عنها دلالات مختلفة تماماً، والخروج منها، أو الغرق في رمالها المتحركة، محكوم بتداعيات أبعد من النتائج المرئية في الميدان.
أهم الدلالات: (1) أن المسألة الفلسطينية، التي بدت، قبل اندلاع الحرب، وكأنها في النزع الأخير، قد عادت إلى الوجود، وأن الذي أعادها هو الذي حاول، ويحاول، قتلها. بمعنى آخر، في إدارته للحرب، بكل هذا القدر من الجنون، نتنياهو هو الذي هزم نفسه بنفسه، على المستوى الاستراتيجي العام، بطريقة لم يحلم بها حتى أعداؤه.
(2) وأن وهم السلام الإبراهيمي، الذي بدا بوصفة خاتمة سعيدة للصراع العربي ـ الإسرائيلي من ناحية، ولحظة الإعلان عن وصول العدّاء الإسرائيلي إلى خط النهاية، في مسابقة القوّة الإقليمية، من ناحية ثانية، سرعان ما تبدد. 
يعتقد البعض أن السلام الإبراهيمي تبدد لأن شركاه عادوا إلى رشدهم، أو صاروا معنيين أكثر، ولو لفظياً، بالمسألة الفلسطينية (وهذا كلام فاضي) السلام الإبراهيمي، بقدر ما تثبت الحرب الحالية، لا يكفي لإنهاء المسألة الفلسطينية، أو تكريس القوّة الإسرائيلية، طالما أن قوى إقليمية وازنة في الشرق الأوسط من وزن تركيا وإيران يمكن أن تجد نفسها في حالة حرب مع إسرائيل. ولأمر كهذا، بحسابات الجغرافيا السياسية، والقوّة العسكرية، والطموحات الإمبراطورية، دلالات لا تخفى على اللبيب. ولا ينبغي أن يسقط من حسابات كهذه تدخل دول من خارج الإقليم.
نعرف معادلة الردع مع الإيرانيين، وفي حال وقوع الضربة والضربة المضادة، وما قد ينجم عن هذه أو تلك من إشباع أو تصعيد، فثمة فرصة لإعادة تقييم المعادلة نفسها. ومع هذا في الذهن، ثمة مسألة لافتة للنظر، فعلاً، وتتمثل في عبارة وصفتها باحثة إسرائيلية في قضايا الاستراتيجية، بكونها من أكثر العبارات التي سمعها الإسرائيليون على مدار عقود طويلة من علاقاتهم مع الأتراك خطورة. جاءت العبارة المعنية في كلام أردوغان قبل أيام قليلة عن ضرورة أن تكون تركيا قوية لتتمكن من التدخل في يوم ما لحماية الفلسطينيين.
بمعنى آخر: من الواضح الآن أن انهيار الحواضر العربية، الذي ألحق ضربة قاسية بالفلسطينيين، لا يمثل الفصل الأخير في تراجيديا الأوديسة الفلسطينية. ومن الحماقة، بالتأكيد، في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط، الرهان على حلول عسكرية كبديل للحلول التفاوضية، والتسويات. 
(3) قد نجد ما يفسر المعادلة سالفة الذكر في تحذير مارتن إندك (رحل عن دنيانا قبل أيام) من نتنياهو الذي يغرق، ويُغرق إسرائيل. ومع ذلك، ثمة ما يبرر التساؤل: هل تنحصر مشكلة إدارة الحرب بكل هذا القدر من الجنون، بما تعني من غرق لشخص يُغرق دولة، في شخص نتنياهو، وعدد آخر من صنّاع القرار في الدولة الإسرائيلية، أم أن المشكلة تتجلى كتجسيد لهوية وماهية الدولة والشعب والمجتمع؟ أميل إلى الشق الثاني كجواب محتمل. 
لأمر كهذا دلالات يصعب حصرها، ونكتفي، هنا، بالإشارة إلى صلته العضوية بالحلول المحتملة للصراع في فلسطين وعليها، وما له من تداعيات هائلة على المستوى الاستراتيجي العام. فمن الشائع، في الغرب على نحو خاص، في معرض تحليل مشكلة الفلسطينيين مع الإسرائيليين الكلام عن مناهج التعليم، وثقافة المجتمعات التي تحتفي بالقتل، وتتفشى فيها رائحة العداء للسامية، حتى في لغة الحياة اليومية. 
ومع ذلك، من غير الشائع تحليل إدارة الحرب مع الفلسطينيين، على خلفية الثقافة والقيم السائدة في المجتمع الإسرائيلي، وما طرأ عليه من تحوّلات في العقود القليلة الماضية. ولعل في مجرد انتقال هذا الأمر، منذ اندلاع الحرب، من الهامش إلى المتن، ما يقوّض ما تبقى من الرصيد الأخلاقي للدولة الإسرائيلية في العالم.