ثـغـرة الـغـرور فـى أكتوبـر الآخــر!

ثـغـرة الـغـرور فـى أكتوبـر الآخــر!

2024 Oct,08

في ظروف وأجواء ما بعد الهزيمة العسكرية 1967 دأب الرئيس جمال عبد الناصر على دعوة بعض القادة العسكريين الجدد لمشاهدة تسجيلات قادة الجيش الإسرائيلي عن وقائعها وما يترتب عليها.

 

بالتفاتة عميقة لما رآه أمامه قال رئيس أركان القوات المسلحة المصرية، الفريق عبد المنعم رياض، الذي تولى منصبه للتو: «لقد عرفت يا سيادة الرئيس من أين سوف ننال منهم».. «إنها ثغرة الغرور».
أخذت الحقائق الجديدة تعلن عن نفسها، طرف يدرس أسباب هزيمته العسكرية ويعمل بأقصى ما يستطيع على تلافي أسبابها وإعادة بناء جيشه من تحت الصفر تقريباً على أسس احترافية.. وطرف آخر أفقدته نشوة النصر قدرته على قراءة ما سوف تأتى به الأيام.
لمدة ثلاث سنوات كاملة دخلت مصر حرب استنزاف طويلة تضافرت فيها إرادة القتال مع مقومات العلم العسكري الحديث، أدخلت إلى القوات المسلحة أجيالاً جديدة من خريجى الجامعات ونهض القطاع العام بواجبه في توفير ضرورات الحياة اليومية اللازمة لاستقرار مجتمع في حالة حرب.
تعتبر حرب الاستنزاف في الرواية العسكرية المصرية «بروفة حرب أكتوبر». 
وقد دفع الجيش الإسرائيلي ثمن الغرور باهظاً في السادس من أكتوبر 1973، غير أن السياسة خذلت السلاح وبطولات الرجال، وأفقدت مصر جانباً كبيراً من حقها في جنى ثمار النصر.
بعد خمسين سنة بالضبط في السابع من أكتوبر 2023 دفعت إسرائيل ثمناً باهظاً آخر من ثغرة الغرور نفسها. 
فوجئت في ذلك اليوم، قبل عام، بأوسع هجوم من المقاومة الفلسطينية داخل غلاف غزة، على غير توقع أو انتظار.
كان ذلك فشلاً استخباراتياً وعسكرياً ذريعاً هز ثقة المجتمع الإسرائيلي في نفسه، كما في مؤسستيه العسكرية والأمنية. بدت إسرائيل عاجزة تماماً عن الدفاع عن نفسها دون دعم أميركي كامل وشامل.
كانت تلك رسالة إلى الإقليم كله، إذا كانت لا تستطيع أن تحمي أمنها الداخلي فكيف يكون بوسعها أي ادعاء بقدرتها على حماية الآخرين؟!
لم يكن مسموحاً أميركياً أن تُهزم إسرائيل، أو أن تفقد قدرتها على إخافة من حولها.
أطلقت يدها في غزة تنكيلاً وانتقاماً من مواطنيها المدنيين فيما يوصف دولياً بـ«حرب إبادة» لا مثيل لها في التاريخ الإنساني الحديث لاستعادة هيبتها المنتهكة كممثل أصيل للاستراتيجية الغربية في المنطقة.
جرت تظاهرات واحتجاجات بأنحاء العالم تندد بجرائم الحرب، التي ترتكب دون رادع من قانون دولي بغطاء أميركي سياسي واستراتيجي شبه مطلق.
بدأت الهزيمة الأخلاقية تلقي بظلالها الداكنة على المستقبل الإسرائيلي. 
تراجعت إلى حد كبير تبعات الهزيمة الاستراتيجية التي لحقت بإسرائيل في الحرب على غزة لعاملين رئيسين، الدعم الأميركي المطلق والتخاذل العربي المروّع، رغم ذلك فإنها لم تنتصر على أي نحو.
في نهاية المطاف، الحروب تقاس بنتائجها السياسية. كان الفشل الإسرائيلي ذريعاً رغم ما لحق بغزة وأهلها من تقتيل جماعي وتدمير شبه كامل لمبانيها وبنيتها التحتية وتشريد نحو مليوني فلسطيني.
لم تنجح إسرائيل طوال عام كامل في حسم أي من أهدافها المعلنة، لا اجتثت «حماس» ولا بدا أنها سوف تنجح في منع عودتها لحكم غزة مجدداً. 
لا استعادت رهائنها وأسراها ولا عقدت اتفاقاً يسمح بوقف إطلاق النار وفق تفاهمات متبادلة. طلبت نصراً مطلقاً لم يكن في مقدورها وطاقتها.
بفائض غرور آخر، فتحت جبهة قتال جديدة في الجنوب اللبناني تحت اسم «سهام الشمال» دون أن تتعلم شيئاً من تجربتها المريرة في حرب 2006. لم تضع في اعتبارها استخلاصات تقرير فينو غراد ، الذي استغرق نحو العامين في تقصي أسباب هزيمتها في تلك الحرب.
من نفس ثغرة الغرور وقعت مجدداً في مستنقع الجنوب. وسعت نطاق المواجهات فيما جيشها منهك بعد حرب طويلة في غزة واقتصادها يتآكل باطّراد قدرته على الصمود.
لم تكن مصادفة أن يقول زعيم حزب الله حسن نصر الله  في خطابه الأخير: «بيننا وبينكم الأيام والليالى والميدان»، وقد ثبت أن المقاومة أعدت لهذا اليوم على مدى ثمانية عشر عاماً بكل جدية.
ما أغوى إسرائيل بالحرب على لبنان ما تلقته بنفس التوقيت من حزم مساعدات عسكرية أميركية بقيمة 8.7 مليار دولار.
رغم ما لحق بحزب الله من ضربات يصعب تحملها من اختراقات لشبكة اتصاله واغتيالات لأعداد كبيرة من قيادته ونزوح أكثر من مليون لبناني، بيئته الحاضنة، إلا أنه أثبت في الميدان أن التوغل البري لن يكون نزهة.
وقد انتفت بأسرع مما كان متوقعاً عن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو دعاوى غروره بأنه بصدد إعلان شرق أوسط جديد يفرضه على اللاعبين الإقليميين كافة بلا استثناء مع الضربة الصاروخية الإيرانية المتأخرة حيث بدا مهزوزاً بعدما كان قبلها مباشرة ينتفخ غروراً.
كان القفز من قطاع غزة إلى الجنوب اللبناني تهرباً لدواعٍ سياسية من استحقاق وقف إطلاق النار بصفقة تبادل الأسرى والرهائن. أضيفت إلى مهام الحرب، إعادة 750 ألف نازح إلى مستوطناتهم في الشمال الإسرائيلي وتقويض القدرات الاستراتيجية لحزب الله دون أن يكون ذلك ممكناً، أو موثوقاً في قدرة إسرائيل على تحقيقه.
حظيت العمليات العسكرية في الشمال بما يشبه الإجماع في المجتمع الإسرائيلي، لكنه مرشح للتراجع تحت وطأة الخسائر البشرية الفادحة.
المأزق الحقيقي أنها استبدلت طلب إعادة الأسرى والرهائن بطلب آخر يصعب تحقيقه وهو إعادة النازحين إلى مستوطناتهم دون أفق سياسي يعمل على التهدئة في الجبهات كافة. 
لا توجد لدى الحكومة الإسرائيلية أي تصورات لليوم التالي، لا في غزة ولا في لبنان. 
كان مثيراً للالتفات تكرار اللعبة نفسها، توسع بلا أفق سياسي للحرب. حسب تصريحات أميركية متواترة فإن هناك توجهاً لتهدئة تفضي إلى عودة النازحين الإسرائيليين، هكذا دون مقابل، كأنه تسليم مسبق بما تريده إسرائيل وعجزت عنه بالسلاح.
الأخطر فيما تطرحه الإدارة الأميركية فك الارتباط بين جبهتي غزة والجنوب اللبناني. 
هذا الطلب بالذات هو جوهر الحرب في الشمال، أن تترك غزة دون أي إسناد. 
إنها نفس ثغرة الغرور التي تتصور أن العصف بأي حقوق للفلسطينيين ممكن دائماً، كأن دروس أكتوبر نسيت تماماً.