بقلم اللواء المتقاعد: أحمد عيسى المدير العام السابق لمعهد فلسطين لأبحاث الأمن القومي
لم يعد الشعب الفلسطيني يتعرض لجرائم القتل والإغتيال والجرح والحرب والهدم وقصف المنازل والإعتقال ومصادرة الأراضي والتهويد من قبل الأذرع الأمنية الإسرائيلية وحسب، بل بدأ يتعرض مؤخراً لجرائم حرق المنازل وتدنيس المساجد والكنائس في وضح النهار من قبل قطعان المستوطنين في الضفة الغربية والقدس.
وفيما تشكل إعتداءات المستوطنين المتكررة على المواطنين الفلسطينيين العزل وممتلكاتهم في القدس والضفة الغربية، لا سيما في القرى والبلدات التي تقع في المناطق التي تخضع للمسؤولية الأمنية الإسرائيلية (B+C) وفقاً لإتفاق أوسلو، جزءً من حملة الجيش الإسرائيلي المعروفة بكاسر الأمواج، والتي كان الجيش قد بدأ بتنفيذها قبل عام ونصف العام تقريباً، إلا أنها تشكل في الوقت نفسه جرائم موصوفة وفقاً للقوانين والأعراف الدولية ومبادئ حقوق الإنسان.
وعلاوة على اعتبار هذه الجرائم دلائل واضحة على فشل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية في تحقيق أهدافها المعلنة من حملة كاسر الأمواج، الأمر الذي يتجلى في سماح الجيش لقطعان المستوطنين هؤلاء بارتكاب هذه الجرائم تحت حمايته وإشرافه، فهي تعتبر كذلكقرائن غير قابلة للدحض على فاشية وعنصرية الإستعمار الصهيوني الإستيطاني لفلسطين وشركائه من الغرب الذي لا زال يحمي ويدعم إسرائيل ويضمن لها الإفلات من الإدانة والعقوبات، مما يجعل من هذا الغرب شريك فعلي في هذه الجرائم.
وحيث لم يعد خافياً على أصغر المراقبين للمشهد سناً بأن حماية الغرب لمنفذي هذه الجرائم ضد الشعب الفلسطيني الأعزل يسهل عليهم تنفيذ المزيد منها، الأمر الذي يبدو واضحاً في سلسلة الجرائم المنفذة بحق الفلسطينيين وممتلكاتهم في الضفة الغربيةعلى الأقل منذ بداية العام الجاري.
إذ بعد محرقة حوارة يوم الأحد الموافق 26/2/2023 بحماية من الجيش وبدعم وتشجيع من وزير المالية والوزير في وزارة الأمن بتسليل سموتريش، الأمر الذي يتطابق بالتمام والكمال مع (ليلة الزجاج المكسور) وفقاً لموسوعة الهلوكست حين أقدمت مجموعات من النازيين الألمان بحماية من الشرطة بحرق وتحطيم المحلات والكنس اليهودية العام 1938 على اثر اعتيال احد الديبلوماسيين الألمان في باريس من قبل أحد الشبان اليهود، أقدمت مجموعات اكبر عدداً من المستوطنين وبحماية وحدات من الجيش على محرقة ترمسعيا يوم الأربعاء الماضي الموافق 20/6/2023، ولكن بدعم ومباركة هذه المرة من قبل وزير الأمن القومي الإسرائيلي بن غفير شريك سموتريش في الحكومة الحالية، مما يعني أن مزيداً من المحارق والجرائم سينفذها المستوطنين والجيش بحق الفلسطينيين في قادم الأيام طالما لم يبادر العالم الذي يدعي الليبرالية والديمقراطية والعدالة الى توفير الحماية اللازمة للشعب الفلسطيني، كما سارع وبادر لتقديم ما يلزم من دعم للشعب في أوكرانيا ضد الإعتداء الروسيعلى أوكرانيا وفقاً لخطاب الغرب.
وفيما تظهر هذه الجرائم ضعف المجتمع الدولي ومؤسساته في توفير الحماية للشعب الفلسطيني من جرائم المستوطنين الآخذة في الإزدياد في الضفة الغربية، فهي تكشف في الوقت ذاته عيوب البنود الأمنية المتضمنة في اتفاق أوسلو التي تعتبر الأساس القانوني المنشأب ر
للمؤسسة الأمنية الفلسطينية، إذ تظهر قراءة هذه البنود أنها تحصر مهمة الأجهزة الأمنية الفلسطينية في حفظ الأمن والنظام العامالداخلي وتحرم على الفلسطينيين أفراداً وجماعات من خارج الأجهزة الأمنية امتلاك السلاح حتى لغايات الدفاع عن النفس، ومقابل ذلك تحصر مهمة جفظ أمن المستوطنين وحماية المنطقة من التهديدات الخارجية في يد الجيش الإسرائيلي.
ويبدو ذلك واضحاً في نصوص المواد رقم (أ/3، 8) من وثيقة إعلان المبادئ المعروفة باتفاقية أوسلو والتي جرى التوقيع عليها في سبتمبر/ايلول العام 1993 في العاصمة الأمريكية واشنطن بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة دولة إسرائيل، حيث نصتالمادة الأولى على {…. تقوم الشرطة الفلسطينية (أجهزة الأمن)بتأمين النظام العام}، فيما نصت المادة الثانية والتي وردت تجت عنوان النظام والأمن العام على “من أجل ضمان النظام العام والأمن الداخلي للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، سينشأ المجلس (أي السلطة) قوة شرطة قوية، بينما ستستمر إسرائيل في الإضطلاع بمسؤولية الدفاع عن التهديدات الخارجية، وكذلك بمسؤولية الأمن الإجمالي للإسرائيليين بغرض حماية أمنهم الداخلي والنظام العام”.
وتولت المادة رقم (XIV) أي المادة رقم (14) من اتفاقية المرحلة الإنتقالية التي جرى التوقيع عليها العام 1995، في القاهرة مهمة ضبط شرح وتفسير المواد التي وردت في اتفاقية اعلان المبادئ وذلك في أربع فقرات منها “يمنع قيام أو عمل أية قوة مسلحة في الضفة الغربية، عدا الشرطة الفلسطينية وقوات الجيش الإسرائيلي”، كما أنها حددت مهام ووظائف وهيكليات وعتاد ومسرح عمليات الشرطة الفلسطينية.
وتوضح الوقائع على الأرض بعد مرور ثلاثة عقود على الإتفاقخاصة في الضفة الغربية أن المفاوض الإسرائيلي قد قيد الفلسطينيين بنصوص مجحفة، إذ خلت المواد المنظمة للأجهزة الأمنية من أية إشارة للدفاع عن النفس، وتركت مهمة الدفاع عن الفلسطينيين للجيش الإسرائيلي، والأهم أنها حرمت الأركان الأساسية التي يقوم عليهما مفهوم النظام، وهم هنا المشرع الفلسطيني القاضي الفلسطينيان من تعريف وتفسير النظام العام، وحصرت تفسير النظام العام في يد الشرطة الفلسطينية أو الأمن الفلسطيني المقيد ببنود الإتفاقات، الأمر الذي يتعارض مع مفهوم فكرة النظام العام، التي يرى فقهاء القانون قاطبة أنها تمثل مجموعة المبادئ الأساسية والأفكار الفلسفية والقيم العليا التي تمثل النظام السياسي والإقتصادي والإجتماعي والثقافي الذي يقوم عليه تصور الدولة والمجتمع لهذه الأنظمة.
ما تقدم يبين أن هناك ضرورة فلسطينية للخروج على هذه البنود المجحفة بحق الفلسطينيين في الإتفاقيات الموقعة، لا سيما وأن إسرائيل قد نقضتها وضربتها بعرض الحائط وسمحت للمستوطنين وغيرهم من الإسرائيليين بحمل السلاح وتوظيف هذا السلاح في تنفيذ جرائم ضد الفلسطينيين كما يجري يوميا في القدس والضفة الغربية، كما أن المرحلة الإنتقالية قد إنتهت وولت منذ أكثر من عقدين، والأهم أن السلطة الفلسطينية التي نشأت بموجب هذه الإتفاقات قد أصبحت دولة بموجب القرار رقم (19/67) الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة العام 2012.
وتأسيساً على ذلك أجادل في نهاية هذه المقالة أن الخطوة الأسرع والأسلم للخروج على هذه المواد تكمن في تبني مشروع دستور فلسطين ليكون الأساس الذي تقوم عليه الدولة تحت الإحتلال بكل مؤسساتها خاصة المؤسسة الأمنية، هنا يجب أن يتركز السجال والحوار الفلسطيني الفلسطيني.