جنين التي كشفت عمق المأزق…! أكرم عطا الله

لا يمكن فهم ما ارتكبته إسرائيل في مخيم جنين بالأمس سوى دفع حكومة اليمين المتطرف نحو برنامجها التصعيدي الذي يحمل رؤية مخالفة لما هو قائم في الضفة والدفع نحو تحريف الواقع لصالح البرنامج التوراتي.
فقد بات واضحاً أن الحكومة الجديدة في إسرائيل تدير سياسة تصعيدية في سياق ذلك البرنامج غير آبهة بكل الرغبات الدولية والإقليمية التي لا تريد من هذه المنطقة سوى الهدوء.
واضح أن إسرائيل لديها فقط سياسة داخلية وليس لديها سياسة خارجية كما وصفها وزير الخارجية الأميركي الأشهَر هنري كيسنجر ارتباطاً بتجربته العميقة مع تلك الدولة، فلم يكد يمر أسبوع على زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان الذي نقل قلق البيت الأبيض من تفجر الأوضاع ارتباطاً باتجاهات مراكز القوة في حكومة نتنياهو واندفاعها، بات واضحاً أن الاندفاع الداخلي للحكومة أكثر تأثيراً من قوة الولايات المتحدة ورغباتها.
جاءت مجزرة جنين بعد يومين على زيارة نتنياهو المفاجئة للأردن التي أرادت تهدئة هواجس عمان من صاعق الصهيونية الدينية في الحكومة الذي يكاد ينفجر في الضفة وقد لاحت نذره في القدس، ولا تريد عمان المثقلة بهموم الاقتصاد وتعقيدات أخرى وعودة هاجس الوطن البديل مع حكومة يمين ترانسفيري أكثر من الهدوء. فكيف غامرت إسرائيل بتحدي الجميع وضرب مطالباتهم بعرض الحائط لصالح تصعيد بهذا القدر؟
هذا مدعاة لقراءة التوازن في تلك الحكومة لصالح المتطرفين وبرنامجهم، فالمبرر الذي ساقته إسرائيل لاقتحامها المخيم لا يستوي مع العقل. فالفلسطينيون وفصائلهم يتابعون الصدع القائم في إسرائيل ويعرفون أن عليهم عدم التدخل وتركه ليذهب لأبعد مدى في تفاعلاته الداخلية، ارتباطاً بمقولة نابليون بونابرت “إذا رأيت خصمك يدمر نفسه لا تزعجه “. وليس هناك عاقل يمكن أن يصدق أن هناك أطرافاً فلسطينية كانت تحضّر لعمل في الداخل الإسرائيلي يكسر المعارضة في اسرائيل لصالح حكومة نتنياهو وإجهاض الصراع الداخلي في إسرائيل وتوحيد الإسرائيليين.
وبالمقابل يمكن أن تتم قراءة ما جرى في جنين ارتباطا بصراع الإرادات بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، إذ تكشف ردود الفعل الفلسطينية من قبل السلطة والمعارضة عن عمق المأزق الراهن، فقد تراوحت بين التنديد وطلب الحماية من المجتمع الدولي والحداد والإضراب. فقد جاء الاقتحام في أسوأ ظروف يمر بها الفلسطينيون وفي أضعف حالاتهم، حالة من الانقسام والتربص لا تعنيها في المجزرة سوى تسجيل النقاط على المنافس أكثر من قراءة مأزق اللحظة.
عشوائية ردود الفعل كانت تنسجم مع عشوائية العمل المقاوم الذي انتقل من الفصائل المنظمة نحو الشباب غير المنظم الذي تقوده مجموعات بريئة يقودها الانفعال الوطني، غير مجهزة للمواجهة وباتت تخسر كثيراً أمام جيش مدرب وبأحدث الأسلحة رغم ما تقدمه من نماذج التضحية، لكن النتائج محبطة ارتباطاً بواقع بات أقسى من الجميع، لكنه لا يحتمل هذا القدر من النزيف دون تحقيق نتائج .
لقد كشفت أزمة جنين عن عجز شديد لدى الجميع، ولكنها كشفت أكثر عن عجز إدارة الحالة الفلسطينية برمتها التي أديرت خلال السنوات الماضية، واضعةً كل إمكانياتها لصالح التنافس الداخلي وصراع الاستطلاعات والتربص وانعدام المسؤولية في إنهاء هذه الحالة الشاذة من التشرذم، رغم ما قدمته إسرائيل في انتخاباتها الأخيرة من وضوح في الرؤية تجعل من إنهاء تلك الحالة ليس فقط مطلباً ضرورياً بل على الأقل لمواجهة الخطر القادم.
ولكن يبدو أن الأمر أكثر صعوبة على قوى تكيفت مع هذا الوضع الشاذ، وأصبحت أسيرة للمصالح الحزبية وحتى الشخصية إلى الدرجة التي لم تعد تميز لون المشهد ولم تعد ترى هذا القدر من السوداوية.
اقتحام بن غفير للأقصى مر بهدوء وهو ما كان يستدعي سابقاً ردة فعل شديدة تقلب الطاولة، وأمام مجزرة جنين بدت ردود الأفعال باهتة، وكذلك مشروع الاستيطان الذي أعلن دون ردود فعل دولية أو عربية او فلسطينية، يعكس طبيعة المرحلة والتسريب عن تحضيرات الضم تعكس كلها خطورة القادم من عملية تجريف واسعة تلاحق فيها الحكومة الإسرائيلية الزمن قبل أن يتم حلها لسبب ما، إذ يدرك أعضاؤها من المتطرفين أن نتنياهو سيجد نفسه في لحظة ما أنه لا  يستطيع التوازن بين ضغوطات الداخل وضغوطات الخارج وبالتالي عليهم تحقيق ما يمكن تحقيقه بأقصى سرعة.
بات الفلسطيني الذي يقف مندهشاً أمام تسارع الحالة وتطوراتها أقل كفاءة من الاستجابة لمتطلباتها، فحالة الانتظار هي أسوأ ما يمكن ان يحدث لشعب تتآكل فيها قدراته وطاقاته ومعنوياته، في ظل زحف الطرف الآخر الذي يمتلك كل الإمكانيات لتنفيذ كل مشاريعه حتى الهاذية منها ما دام الطرف المقابل في حالة عجز شديد وعاجز عن القيام بما يتناسب، وما دام هناك محيط عربي بحالة ليست أفضل كثيراً من الفلسطينيين، وما دام هناك مجتمع دولي أقصى ما يريده هو الهدوء للتفرغ لتحقيق مصالحه ومصالح شعوبه وحريص فقط على عدم تفجر الأوضاع في المنطقة وتجنب الصداع الفلسطيني.
المسألة تبدأ من فلسطين، وقد دلت التجربة أن الفعل الفلسطيني هو الوحيد القادر على استدعاء مواقف وردود فعل إقليمية ودولية، ودون ذلك فإن الجميع يتواطأ بالصمت والتهدئة.
 هل يفهم الفلسطيني ذلك أم يستمر في لعبة المنافسة الداخلية على وقع الدماء؟