كتب: عماد توفيق عفانة مدير مركز دراسات اللاجئين
اعتمد العدو على الدوام على مقاربة شبه ثابتة في مواجهة ساحات المقاومة الفلسطينية التي اثبتت انها باقية وتتمدد.
مقاربة تتلخص في تطبيق سياسة العصا والجزرة، حيث يفضل العدو تقديم الجزرة أولا قبل اللجوء الى العصا.
ومقاربة الجزرة تعتمد على الاغراءات الاقتصادية، التي تعتمد بدورها على منظومة يسميها الاحتلال “التسهيلات”، كأداة سيطرةٍ ناعمة، بحيث تمنح للناس ما يمكن لهم أن يخسروه، ما ينتج تلقائيًا استقرارًا أمنيًا موهوماً.
أما مقاربة العصا، فتقوم على ان ما لا يتحقق بالإغراء يتحقق بالحصار والافقار.
وهذا ما مارسه الاحتلال مع مخيم جنين، حيث جاءت وثيقة مؤتمر هرتسيليا عام 2009 معتمدة على نموذج جنين، كحالة نجاحٍ يجلب الاستقرار الأمني، عبر تخفيف القيود الاقتصادية.
ما شجع دخول أكثر من 3000 مركبةٍ عربيةٍ من الداخل المحتل، بهدف التسوق، ما در على جنين ملايين الشواكل فازدهرت المتاجر والتجارة، وتوهم العدو أنه بات للفلسطينيين ما يخسرونه.
لكن تصاعد المقاومة في السنوات الأخيرة، وتصدر جنين لهذه المقاومة أثبتت فشل مقاربة الجزرة.
فانتقل الاحتلال على الفور الى الخيار التالي، فتصاعدت القيود الصهيونية على الاقتصاد في جنين، والتي تصل تكلفتها إلى حوالي 6 ملايين شيكل لكل يوم إغلاق.
إلا أن جنين، بمدينتها وريفها، خيبت ظن الاحتلال، وشكلت ابان العدوان الواسع على جنين في يوليو/تموز 2023 والذي أطلق عليه العدو اسم “البيت والحديقة”، وأسمتها المقاومة “بأس جنين”، حاضنة متينة للمخيم، على اعتبار أنه يمثل حالة مقاومةٍ وطنية، وتعبر عن وجدان وضمير وإرادة شعبية جمعية.
وقدمت مدينة جنين وريفها دعمٍ شعبيٍ شاملٍ، دون اعتبار لحسابات الربح والخسارة التي اعتمد عليها الاحتلال في تسكين شعبنا وعزل مقاومته.
لكن العدو الذي تترنح خياراته بين العصا والجزرة، يصر على اعتماد المقاربة الاستعمارية القديمة، القائمة على فرضية أن مالم يأتي بالقوة، يمكن أن يأتي بمزيد من القوة.
*عوامل الصمود*
والمتأمل في العوامل التي تقف خلف فشل مقاربة العدو المعتمدة على سياسة العصى والجزرة، وإصرار شعبنا في مدينة وريف جنين على التضحية بالجزرة، ومواجهة ألم العصا، لجهة تأمين دعم شعبي شامل، يجد توفر عدة عوامل منها:
– حافظت جنين على شرف وقداسة السلاح، بعيداً عن حالة الاستعراض والاستقطاب والصراع الداخلي-عائلي وفصائلي-التي طبعت حالات أخرى في مدن ومخيمات أخرى.
– القدرات المشرفة التي وصلت اليها المقاومة في مخيم جنين، نتيجة اتباع سياسة العمل بصمت، لجهة مراكمة القوة التي نجحت في مواجهة العدو المدجج وإلحاق خسائر محققة في صفوفه؛ رغم حشده لنحو 3000 مقاتل ومئات الاليات.
– اعتماد تشكيل مقاوم ذو هوية جمعية عابرة للفصائلية، فكتيبة جنين تضم في صفوفها مقاتلين من سرايا القدس وكتائب شهداء الأقصى، وربما ضمت في بدايتها مقاتلين من كتائب القسام.
– انعدام البدائل أمام شعبنا في مواجهة العدوان الصهيوني الشامل، الذي بات لا يستثني أحد مدينة كانت ام مخيم، في ظل حالة العجز المخزي الذي سطرته السلطة في الدفاع عن شعبنا، رغم امتلاكها عشرات آلاف المقاتلين في أجهزتها الأمنية، التي سخرتها لحماية العدو وليس لمواجهته، مع ضرورة الإشارة الى الحالات الفردية المشرفة التي سطرها عدد من عناصر الأجهزة الأمنية في مواجهة العدو.
ففي جنين، بات من الصعب التفريق ميدانيًا بين كتيبة جنين التي تضم سرايا القدس، وكتائب شهداء الأقصى، وبين كتائب القسام وكتائب أبو علي مصطفى، كفواعل ميدانية بارزة، الامر الذي ربما برر تبني كلٌ من الكتيبة، وكتائب شهداء الأقصى، وكتائب القسام، وكتائب أبو علي مصطفى لعملية استهداف جنديٍ صهيوني خلال انسحاب القوات المهاجمة من جنين بداية يوليو/تموز 2023.
*استهداف الحاضنة الشعبية*
العدو الذي أدرك مدى أهمية الحاضنة الشعبية في اسناد المقاومة، عمل على اعتماد عدد من الإجراءات لاستهداف حاضنة المقاومة الشعبية، لجهة اضعافها وثنيها عن تشكيل ظهير قوي للمقاومة، فقام العدو بعدد من الخطوات منها:
– استهداف مقدرات الحاضنة الشعبية، عبر التدمير العنيف للبنية التحتية، وللمنشآت والبيوت، ما أعاد إلى الاذهان المشاهد المروعة ابان اجتياح المخيم سنة 2002.
– الاستهداف البشري لأهالي المخيم، عبر تنظيم عمليات تهجيرٍ لنحو 3000 لاجئ فلسطينييٍ، ما أعاد إلى الاذهان المشاهد المروعة لتهجيرهم ابان نكبة 1948 واجتياح 2002، حيث عمد العدو الى مسح مربعات سكنية كاملة، في محاولة لتغيير خارطة المخيم، لتخدم عملياته الأمنية، وتسهيل وصول آلياته المصفحة وجرافاته الضخمة الى كل مكان فيه.
*غزة كملهم وجنين كنموذج*
لا شك أن الحروب التي شنها العدو على قطاع غزة، منذ العام 2000 حتى اليوم، وطريقة غزة في مواجهة آلة الحرب الصهيونية العمياء، شكل عامل الهام للمقاومة المتألقة في جنين.
فقد واجهت المقاومة في جنين العدو بشكل أكثر ذكاء وحنكة من المرات السابقة، واعتمدت المقاومة أسلوب الكمائن المدروسة، باستخدام العبوات الناسفة، وركزت استهدافها لقوات العدو في أماكن محددةٍ، ووضعت خطط للانسحاب الآمن قبل كل هجوم، ما قلل الخسائر في صفوف المقاومة، ما فاجأ العدو الذي اضطر للانسحاب مبكرا، بعد يومين فقط من بداية العدوان.
وكما نجحت المقاومة في غزة في تحويلها الى حاضنة متينة للمقاومة، وساحة آمنةً للتدريب والتطوير ومراكمة القوة، عمدت المقاومة في جنين الى تحويل جنين الى مساحة آمنة نوعًا ما، وملجأ للمقاومين والفدائيين والمطاردين، يتحصنون فيها، يطورون عبواتهم، ويرسمون خططهم، وينظمون أنفسهم بشكل قادر على ردع العدو.
وقد ساهم فشل العدوان الأخير على جنين في تعزيز مكانتها باعتبارها حاضنةً للمقاومةٍ، على الرغم من ارسال السلطة لأكثر من ألف عنصر من أجهزتها الأمنية إلى جنين، وعلى الرغم من تكثيف السلطة للتعاون الأمني لملاحقة واعتقال واغتيال المقاومين، في اعقاب زيارة الرئيس لجنين، الا ان هذا لم يثني شباب جنين عن الانخراط في صفوف المقاومة.
ومن اللافت ان المقاومة في جنين زاوجت بين المقاومة المسلحة والمقاومة الشعبية.
فقط اشتبكت المسيرات التي انطلقت من الريف لنصرة المقاومة في المخيم مع قوات العدو بالحجارة على أطراف المخيم، واشتبكوا مع دوريات الاحتلال على نطاقٍ واسعٍ، بالتزامن مع تواصل قوافل الدعم والإسناد المادي والاغاثي للمدينة والمخيم، خلال وبعد العدوان.
وبذا تكون المقاومة قد نجحت في ترسيخ موقع المخيم كمفهومٍ وطنيٍ نضالي عابرٍ للجغرافيا وللتقسيمات الفصائلية، كما رسخت اعتبار المقاومة فعلًا يعبر عن الضمير الجمعي، وثبتت قيمة المخيم هذا الكيان المؤقت كقلعة للنضال والمقاومة، واحياء فكرة العودة الى وطن الإباء والاجداد.
*الدروس والعبر:*
من هنا يقع على عاتق المقاومة المتنامية في الضفة الغربية المحتلة، استخلاص الدروس والعبر من تجربة جنين لجهة:
– العمل على تحويل مخيمات وقرى التماس مع المغتصبات والمغتصبين، الى قواعد انطلاق لردع هجمات المغتصبين والاحتلال، وليس كيس ملاكمة لتلقي الضربات.
– تعميم خطاب الثقة بالنفس، والإيمان بحتمية الانتصار، وبالوحدة الوطنية كخيار لا بديل عنه، لتجاوز حالة العجز التي تمر بها السلطة الفلسطينية التي باتت منعدمة الخيارات، في ظل ارتهان كامل لإرادة واشتراطات العدو.
_ اعلاء شعار العودة كهدف وقيمة وغاية للنضال والمقاومة يهون في سبيلها كل التضحيات وتستحق مزيدا من الصبر من الثبات