جميع الآراء المنشورة تعبر فقط عن رأى كاتبها، وليست بالضرورة تعبر عن رأى الموقع
شخصياً أعترف أنني مؤيدة تماماً للقرار الجريء، المدوي، الذي أصدره قبل أيام منظموا مهرجان كارلوفي فاري السينمائي الخامس والخمسين، بتكريم النجم الهوليوودي جوني ديب، مما جعل إحدى المنظمات الخيرية – التي تهاجم العنف الأسري – تشن هجوماً علي القرار معتبره هذه الجائزة «مضللة» و«مهينة».
شخصياً، أنا مع الفصل التام بين الحياة الشخصية للفنان وبين أعماله ومسيرته السينمائية. هل تتذكرون الاتجاهات النقدية الأدبية وكذلك السينمائية التي تطالب بالفصل بين حياة المبدع وإبداعه، حتى في التفسير، وذلك حتى يُترك العمل للقاريء، ليقرأة ويُحلله كما يشاء وفق خبراته وثقافته هو، وبدون أي توجيه. لدرجة أن البعض نادى بـ«موت المؤلف» أو «موت المبدع».. فكيف يحق للبعض، الآن، أن يُصادر على الإبداع ويطالب بمحاكمته وفق التصرفات الشخصية للمبدع؟ إنه أمر لا علاقة له بالفن وقوانينه المفسرة، بل هو أمر يُشبه محاكمات الكنائس وكذلك بعض رجال الدين المتشددين الذي يُقيمون الفن بمقاييس أخلاقية.
هنا، في تلك الواقعة، عندما نتأمل موقف المهرجان التشيكي العريق – والذي يُعد أبرز وأهم مهرجان في وسط وشرق أوروبا، إلي جانب أنه أحد أعرق المهرجانات الدولية الكبرى- سُندرك أن هذه الجرأة هى انحياز للفن السابع، هى في ذات الوقت تنحية للجوانب الشخصية من حياة الفنان وإبعادها عن التأثير في تقييم إبداعه، وهى دعوة تشي بضرورة أن ننتبه فلا نُعيد زمن المكارثية التي عاني منها كثير من المبدعين في خمسينيات القرن الماضي.
لا أريد أن يُفهم من تأييدي للتكريم أنني مع العنف الأسري، أو أنني لست ضد ضرب الزوجات. ما أريد التأكيد عليه بوضوح هو أن الفنان حين يموت لن يبقى منه أمام جمهوره سوى الأفلام التي يستمتع بها هذا الجمهور علي مر الأجيال.. أما الحياة الشخصية للنجوم من كافة الأطياف ستكون في قاع القبر الذي ينبشه الفضوليون فقط.
فتخيلوا بعد خمسين سنة من الآن، حين يغيب جوني ديب بوجوده الفيزيائي، وتتبدل الأجيال، آنذاك مَنْ سيهتم بالسيرة الشخصية للفنان؟! إنهم نباشوا القبور وصُناع الفضائح وتجارها المستفيدون من تأجيجها.. أما الجمهور فيسظل يستمتع بالأفلام، وإن تعرض بالصدفة لتلك الفضائح فسرعان ما ستدفنها فضائح آخرى جديدة، لكن قوة الشخصيات الدرامية بالأفلام تعيش، تنتصر، وتُخلد الفنان.
جوني ديب ليس الأول ولا الأخير من بين الذين اتُهموا بإساءة معاملة النساء. فقد زعم البعض أن الممثل الإيرلندي العملاق شون كونري – الذي يُعتبر أحد أبرز آلهة التمثيل في العالم – قد ضرب زوجته الأولى ودافع كثيرا عن ضرب النساء. فهل أحد يتذكر ذلك؟ لكن يمكننا تذكر عشرات من الأدوار البارعة التي استمتعنا بها وجعلتنا نحبس أنفاسنا أحياناً.
إذن، رغم كل ما سبق، أرى خطوة تكريم النجم الهوليوودي الأسطوري – المغضوب عليه حالياً – تعبير عن جرأة شديدة من إدارة المهرجان، وأعتقد أنها ستساعد في رفع أسهم جوني ديب مجدداً، وإن قليلاً، لأن استعادة هذا الفنان لمكانته السابقة بالكامل ستعتمد على جهوده الذاتية، وقو عزيمته، وإرادته في التحدي وإنتاج مزيد من الأعمال القوية مهما كان موقف هوليوود منه. فصحيح أن عقاب هوليوود شديد القسوة، لكن الحقيقة المؤكدة أن المهيمنين عليها ضعفاء جدا أمام الأرباح، فإن نجح جوني ديب في تقديم عمل يستعيد به عرشه السابق سيجد هوليوود وقد بدأت تلهث وراءه مجددا.
من جانب آخر، آرى أن تكريم مهرجان كارلوفي فاري هو رد اعتبار للنجم الكبير، بل رداً بليغاً ليس فقط لكل المهاجمين، ولكن بالأخص على تصريح مارك ستيفنز – أحد كبار المحامين لصحيفة «ذا صن» – الذي قال: «هذا أمر مدمر لمسيرة جوني ديب، فهو الآن أصبح سام في أنظار الجميع، وسيُعرف عنه إلى الأبد بأنه «ضارب زوجته» وسكير ومتعاطي مخدرات، هكذا سيُكتب على شاهد قبره عند وفاته.» فهل حقاً سيتذكر الجمهور العريض من هنا حتى نهاية العالم أي شيء من هذه الأوصاف؟
أعتقد أن تصريح منظمي المهرجان التشيكي يرد ضمنياً على التساؤال السابق: بأنه سيحتفل بـ «مسيرة الممثل الواسعة وإرثه الدائم.» والذي وصفه المهرجان بأنه «فنان متعدد الأوجه» و«أيقونة السينما المعاصرة».
الظريف في الأمر هو دفاع مخرج في قيمة وقامة الألماني فيم فيندرز عن مهرجان كارلوفي فاري وأي مهرجان آخر قد يفكر في تكريم جوني ديب قائلاً حين سئل عن رأيه: «مَنْ أنا لأحكم على الطريقة التي يقود بها حياته؟»
في جميع الأحوال، فإن مهرجان كارلوفي فاري – الذي يستهل فعاليات دورته الخامس والخمسين اليوم الجمعة الموافق ٢٠ أغسطس ويستمر حتي ٢٨ من الشهر الجاري، وذلك بعد تأجيل مرتين بسبب كورونا – يُحسب له، ليس فقط التكريم، ولكن أيضاً اختياره لفيلمين مهمين في مسيرة ديب الحافلة بالإنتاج والتمثيل والموسيقى، فالأثنين من إنتاجه. صحيح أنه يمثل بطولة أحدهما، لكنه قدم درساً بليغاً في أصول فن الأداء بهذا العمل الذي يحمل عنوان «ميناماتا» والذي تدور أحداثه حول تلوث مياه الشرب بسموم مصنع كيماوي لأباطرة يصعب مقاومتهم حتى أنه يدفع حياته كصحفي ثمناً للدفاع عن الناس ضحايا تلك السموم.
أما فيلمه الثاني فهو شريط وثائقي بعنوان: « Crock of Gold: A Few Rounds with Shane MacGowan. والذي يُلقي نظرة على حياة المغني الأسطوري، وكاتب الأغاني الأيرلندي شين ماكجوان، والذي اُعتبر أيقونة الموسيقى الأيرلندية، الذي ينقل للمشاهد نظرة الموسيقي للعالم وروح الدعابة الغريبة، ويكشف شيئًا عن الحساسية الداخلية لهذا الشاعر، ورائد الفرقة الأسطورية The Pogues. لا يكتفي ديب بالإنتاج لكنه يظهر بالفيلم لأنه كان صديق لذلك البطل الأسطوري لسنوات.
في الختام سننتظر رد فعل الجمهور التشيكي إزاء النجم الهوليوودي المغضوب عليه، وسنرى يومي ٢٧، و٢٨ من الشهر الجاري كيف سيستقبله النقاد والصحفيون أثناء سيره على الريد كاربت، وأثناء تقديمه للفيلمين، وعقب تسلمه الجائزة الفخرية من مهرجان كارلوفي فاري الخامس والخمسين.