لم تكن حربا على غزة، كانت برنامج إبادة مضمرا يحمل اسما، “الحرب على كل شيء”، حسب وزير خارجية نتنياهو “إسرائيل كاتس” وهو كائن غير متكتم، ولكنه يتمتع بكآبة القاتل المتسلسل ونزعة الانتقام الغامضة التي تقوده، وتطفر العنصرية في كل ما يفعل أو يتحدث.
“حرب على كل شيء” يكاد يكون هذا هو التعبير الأدق في وصف الروح المعتمة التي تقود إسرائيل، هجوم على الناس والمكان، التاريخ والجغرافيا، القضية والأمل.
القفزة ما قبل الأخيرة للضبع بعد أن طاف حول فلسطين ونهش أطرافها مائة سنة وأكثر.
بهذا الضوء يمكن العبور في عتمة الحرب وفوضى الأصوات واشتباك الظلال. وسيبدو التمسك في أي خلاف، أو التستر به، أو تغطيته بالحرص على الناس وادعاء مسؤولية حمايتهم، نوعا من الترف الوطني القاتل.
تحت هذا الضوء يمكن قراءة تحولات الإقليم في العقود الثلاثة الأخيرة؛ تحييد دول الطوق، تفكيك الحواضر في الشام الكبير والهلال الخصيب، دمشق بيروت وبغداد، انهيار الجبهة الشرقية وهلهلة العراق بالفساد والطائفية والفقر، القفز عن فلسطين وتغييبها وعزلها عن محيطها العربي، واستبدال المركز الشامي بدور للأطراف في أقصى الخليج، اختتام رحلة “أوسلو” وملاحقها ودورها في صناعة وتوفير الأوهام والجدل والانشغال في البحث عن موطئ قدم أو مزايا مفقودة، تجويف منظمة التحرير وإفراغها من محتواها الشعبي، ودورها السياسي وحضورها الوطني، وتحويلها إلى هيكل فارغ، ثم نقل أجزائها إلى هياكل الوظائف وديوان الموظفين في السلطة…. كل هذا وغيره من التفاصيل كان مقدمات، ستبدو عشوائية للوهلة الأولى، ولكنها شكلت الأرضية التي انبنت عليها سياسة الإبادة التي تحدث الآن في غزة والضفة.
التعامل مع “الحدث” بالقطعة يبدو سذاجة مفرطة وسوء فهم ميئوسا منه لطبيعة الصراع، وعدم إدراك محزنا لتداخل الحلقات بين أجزاء فلسطين المقسمة في السياسة والجغرافيا، وهو إمعان في إدارة الانقسام، الذي كان الثغرة في الجدار، وعبرها دخل القاتل بنواياه المبيتة منذ أكثر من قرن.
ليس الأمر التضامن مع غزة والوقوف إلى جانبها بينما هي تباد وتتحول إلى مكان محطم غير قابل للعيش، ليس الأمر البحث عن سبل إنقاذها، أيا كان المسمى والخطاب، بقدر ما هو التكامل معها.
هو أيضا إغلاق الثغرة التي ينفذ منها كل شيء، الثغرة التي تغذي اليأس ونزعة “الولولة” من جهة، وتغييب الواقع عبر البلاغة والشعبوية الفارغة من جهة أخرى. قد لا يحقق إنهاء الانقسام على قاعدة الأولوية الوطنية “الانتصار”، ولكنه سيمنح الناس نوعا من الثقة التي يحتاجون إليها، الآن، مساحة للتأمل الجماعي والمصير المشترك وسبل المواجهة.