حرب نتنياهو على “الجنائية الدولية”: تنصّت على المدعي العام واختراق وملاحقة السلطة الوطنية ومنظمات حقوقية فلسطينية

كشفت صحيفة “الغارديان”، في تحقيق مشترك مع مجلة +972 الإسرائيلية- الفلسطينية والعبرية “لوكال كول” عن القصة الحقيقية لمحاولات إسرائيل، وعلى مدى عقد من الزمان تدمير “المحكمة الجنائية الدولية، وباستخدام كل الوسائل، التجسس والتنصت والقرصنة والتخويف.

كشف التحقيق عن مدى هوس رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالتنصت واعتراض المكالمات.

وفي تقرير أعدّه هاري ديفيس وبيثان ماكرنان ويوفال أبراهام وميرون رابوبورت جاء أن المدعي العام  لـ “الجنائية الدولية” حذّرَ، عندما قال إنه سيطلب من قضاتها استصدار أوامر اعتقال ضد قادة إسرائيليين وقادة في “حماس”، وإن بطريقة مبطنة، قائلاً: “أؤكد على وقف كل العراقيل والتخويف والتأثير غير المناسب على المسؤولين، وحالاً”.

ولم يقدم خان تفاصيل عن محاولات التدخل في عمل “الجنائية الدولية”، لكنه أشار إلى بند في المعاهدة التأسيسية لـ “الجنائية”، والذي جعل أي تأثير جريمة، ولو استمر فإن “مكتبي لن يتردد في التحرك”.

ولم يقل خان مَن حاول التدخل أو تخويف الموظفين، إلا أن التحقيق الذي قامت به النشريات الثلاث كشف عن جهود عقد تقريباً لإسرائيل بشن “حرب” على المحكمة.

 وقد استخدمت إسرائيل أجهزة الاستخبارات للتنصت والضغط وتشويه المسؤولين، وما زعم أنه تهديد لهم.

وجاء في التحقيق أن الاستخبارات الإسرائيلية قامت بالتنصّت على اتصالات عدد من المسؤولين في المحكمة، بمن فيهم خان والمدعية السابقة فاتو بن سودة، حيث اعترضت اتصالات هاتفية ورسائل ورسائل إلكترونية وأخذت وثائق. ولم يتوقف التنصت، حيث قدمت الرقابة على نشاطات المحكمة لنتنياهو معلومات أولية، ومقدماً، عن نوايا خان.

 وقد كشف اتصال تم اعتراضه قبل فترة أن خان رغب بطلب مذكرة اعتقال ضد إسرائيليين، لكنه يتعرض إلى “ضغوط ضخمة من الولايات المتحدة”، حسب مصدر على معرفة بالتفاصيل. وتم التجسس على بن سودة، التي فتحت التحقيق في عام 2021، والذي قاد لقرار المحكمة، الأسبوع الماضي، وتم تهديدها كما زعم.

وكان نتنياهو مهتماً بالمراقبة والتجسس على المحكمة لدرجة “الهوس”، حسب مصادر استخباراتية. وأشرف على عملية “الحرب” ضد المحكمة مستشاره للأمن القومي ووكالة الأمن الداخلي “شين بيت” والاستخبارات العسكرية “أمان” ووحدة التنصت الإلكتروني “يونيت 8200″، وتم توزيع المعلومات المستخلصة من الرقابة على وزارة العدل والخارجية والشؤون الإستراتيجية.

وقاد  رئيس المخابرات السابق، يوسي كوهين، عملية خاصة ضد بن سودة، حيث استعان مرة برئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية السابق جوزيف كابيلا. واستعان التحقيق المشترك بمقابلات مع مسؤولي استخبارات إسرائيليين، حاليين وسابقين ورموز بارزة في “الجنائية الدولية” ودبلوماسيين ومحامين على معرفة بجهود إسرائيل لتقويض “الجنائية”. واعترف المتحدث باسم “الجنائية” أن المسؤولين فيها كانوا على وعي بجهود أجهزة استخبارات “معادية” للمحكمة.

وقالوا إن “الجنائية” تقوم بتطبيق إجراءات مضادة ضد هذه النشاطات. ورفض مكتب نتنياهو الاتهامات، حيث قال متحدث باسمه إنها “مليئة بالاتهامات الخاطئة التي لا تقوم على أساس”. وأنكر الجيش الإسرائيلي قيامه بعمليات استخباراتية ضد المحكمة، التي أنشئت عام 2002 كملجأ أخير لمحاكمة أفراد متهمين بأسوأ الجرائم، حيث أصدرت اتهامات ضد الرئيس السابق عمر حسن البشير، ومعمر القذافي، وفي الفترة الأخيرة فلاديمير بوتين. وكان قرار خان طلب مذكرات اعتقال ضد نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت وثلاثة قادة من “حماس” أول مرة يطلب فيها المدعي العام طلباً ضد مسؤولي دولة حليفة للغرب.

إلا أن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية الموجهة لنتنياهو وغالانت بسبب حرب غزة، التي قتل فيها أكثر من 35,000 فلسطيني هي حالة استغرق الإعداد لها أكثر من عقد، ولو وافق القضاة على الطلب فلن يستطيع نتنياهو وغالانت السفر إلى 124 دولة عضو في المحكمة. ويقول مسؤول استخبارات إسرائيلي سابق إن منظور المحاكمة في لاهاي، مقر المحكمة، هو ما قاد “كل المؤسسة العسكرية والسياسية” للنظر إلى الهجوم المضاد ضدها بأنه “حرب  يجب شنها، وواحدة تحتاجها إسرائيل للدفاع ضدها، وتم وصفها بعبارات عسكرية”.

وبدأت الحرب عندما انضمت فلسطين، التي اعترفت بها الجمعية العامة بالأمم المتحدة، عام 2015 إلى “المحكمة الجنائية الدولية”، وهو قرار شجبته إسرائيل، ووصفته بأنه شكلٌ من “دبلوماسية الإرهاب”.

 وقال مسؤول دفاعي سابق، على معرفة بجهود إسرائيل ضد المحكمة، إن قبول فلسطين في المحكمة نظر إليه “كاجتياز لخط أحمر”، و”ربما كان الأكثر شجاعة” من السلطة الوطنية الفلسطينية.

وبالنسبة لفاتو بن سودة، المحامية الغامبية المعروفة، والتي عينت مدعية عامة للمحكمة عام 2012، فقبول عضوية فلسطين كان قراراً كبيراً. فبحسب نظام روما الأساسي، الذي أنشأ المحكمة، فاختصاصها ينسحب على جرائم ترتكب في الدول الأعضاء. ولم تعترف إسرائيل، ولا الولايات المتحدة، وروسيا، والصين، بالمحكمة، إلا أن قبول عضوية فلسطين، عنى أن الأراضي الفلسطينية المحتلة باتت من اختصاص المحكمة.

وفي 15 كانون الثاني/يناير 2015، طلبت بن سودة تحقيقاً مبدئياً في ما وصفته “الوضع في فلسطين”. وبعد شهرين، حضر رجلان حصلا على عنوان بيتها في لاهاي، وقدّما لها مغلفاً محشواً بالدولارات، قالا إنها من امرأة ألمانية تريد شكرها. ورفضا الكشف عن هويتهما، إلا أن المغلف كان يحتوي على رقم هاتف إسرائيلي.

وكانت هذه رسالة من إسرائيل أنها تعرف أن تعيش.

 وأخبرت “الجنائيةُ الدولية” السلطات الهولندية بالحادث، حيث زادت من الحراسة، ووضعت كاميرات مراقبة على بيتها. وكان تقصّي الحقائق في فلسطين جزءاً من عمليات تحقيق للمحكمة شملت جمهورية الكونغو الديمقراطية ودار فور في السودان وكينيا. وشعر  المسؤولون في  المحكمة أنها عرضة للتجسس، ولهذا قاموا باتخاذ إجراءات مضادة.

وقام نتنياهو والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية بحشد كل الجهود للرد على المحكمة، ذلك أن المسؤولين الإسرائيليين كان لديهم اهتمام بنتائج التحقيق. وقالت مصادر عدة إن قيادة الجيش الإسرائيلي أرادت الانضمام لجهود الحرب ضد “الجنائية”: “لقد قيل لنا إن الضباط الكبار يشعرون بالخوف من قبول مناصب في الضفة الغربية لخوفهم من المحاكمة في لاهاي”.

وقاد مكتب نتنياهو جهود الحرب، وبحسب مسؤولين على معرفة بجهود التنصت، فقد كان المكتب يرسل رسائل عن “مجالات الاهتمام” و”تعليمات” لها علاقة بمراقبة المحكمة، ووصف آخر “هوس” نتنياهو بالتنصت المتعلق بـ “الجنائية”.

وذكرت أربعة مصادر أن المخابرات الإسرائيلية قامت بالتنصّت، وبشكل روتيني، على مكالمات بن سودة وفريقها مع الفلسطينيين. ولأنها ممنوعة من دخول غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، فقد أجرت المحكمة تحقيقاتها عبر الهاتف، ما عرّضها للتنصت. وقال مصدر: “لو اتصلت فاتو بن سودة مع أي شخص في الضفة الغربية أو غزة فإن المكالمة تدخل نظام التنصت”. وقال آخر إنه لم يكن هناك أي تردد للتنصت على المدعية، و”لأن بن سودة أفريقية سوداء، فمن سيهتم؟”. ولم تنجح الرقابة على المكالمات في الخارج بين المحكمة وأشخاص في دول أخرى، مع أن أي محاولة كانت تقتضي اختياراً حذراً للرقم الدولي. وقال مصدر إن لوحاً أبيض كان في دائرة الاستخبارات وكتبت عليه أسماء 60 شخصاً للمراقبة، نصفهم في فلسطين، والآخر في الخارج.

وتلقت بن سودة تحذيرات من طرق دبلوماسية عن جهود إسرائيل للحصول على معلومات بشأن التحقيق في فلسطين. وبات المسؤولون على علم بتهديدات ضد منظمات غير حكومية في فلسطين، مثل “الحق”، التي قدمت تقريراً مطولاً عن أحداث في فلسطين. ويعتقد أن شهادات محتملة قدمتها “الحق” ومعلومات حساسة، ربطت مسؤولين بارزين بالجيش ومدراء شين بيت ووزير الدفاع بيني غانتس وبناء على نظام روما الأساسي.

وبعد سنوات من فتح التحقيق، صنف غانتس “الحق” وعدداً من المنظمات غير الحكومية الفلسطينية بالإرهابية، وهو قرار رفضته دول أوروبية، واعتبرته “سي آي إي” بأنه لا يقوم على أدلة.

وقالت المنظمات المصنفة بأنه “هجوم مستهدف” ضد من يتعامل مع “الجنائية الدولية”.

وبحسب مسؤولين حاليين وسابقين في المخابرات الإسرائيلية، فقد قامت وحدة الهجوم الإلكتروني وشين بيت بالتنصّت المنظم على العاملين في المنظمات غير الحكومية الفلسطينية والسلطة الوطنية والتي تتعامل مع “الجنائية الدولية”.

ووصف مسؤولان كيفية اختراق العملاء الإسرائيليين رسائل “الحق” الإلكترونية وجماعات أخرى على اتصالات مع بن سودة. وقال مصدر إن شين بيت اخترق عدداً من هواتف المنظمات غير الحكومية في فلسطين بنظام بيغاسوس للتجسس، وكذا هواتف المسؤولين في السلطة. ومع أن مراقبة شين بيت للطلب الفلسطيني كانت جزءاً من صلاحياتها، إلا أن مسؤولين في الجيش عبّروا عن قلقهم، وأن التجسس تجاوز الحد، ولا علاقة له بالعمليات العسكرية.

وقال مصدر عسكري: “لا علاقة له بحماس، ولا علاقة له باستقرار الضفة الغربية”، و”استخدمنا مصادرنا للتجسس على فاتو بن سودة، وهذا أمر غير شرعي في الاستخبارات العسكرية”. وسواء كانت شرعية أم لا، فقد منحت الرقابة على المحكمة والفلسطينيين ميزة لإسرائيل في اللقاءات السرية التي فتحتها إسرائيل مع مكتب المدعية العامة. وهي لقاءات حساسة لأنها ستقوض موقف الحكومة الإسرائيلية التي لا تعترف بسلطة المحكمة.

وبحسب ستة مصادر، فقد شملت اللقاءات السرية وفوداً من محامي الحكومة والدبلوماسيين الذين سافروا إلى لاهاي، وبمصادقة من نتنياهو، حسب مصدرين. وتم اختيار أعضاء الوفود من وزارة العدل والخارجية والمدعي العام العسكري. وحصلت ما بين 2017- 2019 ، وقادها المحامي والدبلوماسي المعروف تال بيكر. وقال مسؤول سابق في المحكمة: “في البداية كانت متوترة”، و”كنا نقدم تفاصيل عن حوادث معينة. وكنا نقول: لقد تلقينا اتهامات حول هذه الهجمات، ثم كانوا يقدمون تفاصيل”.

وقال شخص على معرفة بالتحضيرات الإسرائيلية إن مسؤولي وزارة العدل كانوا يحصلون على معلومات مستخلصة من التنصت، وكانوا “عطشى” للمعلومات الاستخباراتية. بل حاولت إقناع المحكمة أن الجيش الإسرائيلي لديه إجراءات تحقيق صارمة لتحميل الجنود المسؤولية ومحاسبتهم، كل هذا رغم السجل المشكوك فيه له. وكان هذا موضوعاً جوهرياً، ذلك أن “الجنائية الدولية” لديها مبدأ معروف باسم التكامل الذي يمنع المدعي العام من التحقيق أو محاكمة أفراد حالة وجود تحقيقات على مستوى عال وإجراءات جنائية.

وحاول عملاء إسرائيل معرفة الحوادث التي يتضمنها تحقيق “الجنائية الدولية”.

وقال مصدر: “لو تم تحويل المواد إلى الجنائية الدولية، فعلينا معرفة ما هي، والتأكد من أن الجيش الإسرائيلي قام بالتحقيق فيها، وبشكل مستقل، بحيث يمكنهم زعم التكامل”.

وتوقفت اللقاءات السرية بعد إعلان بن سودة أنها أوقفت التحقيق الأولي، وأن هناك أدلة عن جرائم حرب ارتكبتها إسرائيل و”حماس”.

 وكان القرار نكسة للجهود الإسرائيلية، مع أن المسؤولين الإسرائيليين اعتبروه نتاجاً للوبي الذي قاموا به. وبدلاً من ذلك قالت بن سودة إنها ستطلب من قضاة المحكمة النظر في ما إن كان للمحكمة اختصاص على الأراضي  الفلسطينية، وبسبب “الوقائع الاستثنائية والخاصة المختلف عليها قانونياً”. لكن بن سودة أكدت أنها ستواصل التحقيق لو كان قرار القضاة بنعم. وهذه هي الأرضية التي أدت لزيادة حملة إسرائيل على “الجنائية الدولية”.