في مشهد ربما غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية انتشرت صورتان للطبيب الإنسان د. حسام أبو صفية، الأولي وهو يسير مرتدياً زيه الطبي بما يحمله من رسالة إنسانية تجاوزت قسم أبوقراط وسط دمار الإبادة الرهيب الذي سَوّى بيوت ومنشآت شمال قطاع غزة بالأرض، متوجهاً نحو دبابة اسرائيلية لم تفرغ بعد من زراعة الموت وحصد الأرواح. كان يتقدم بخطوات واثقة تحمل رسالة الحياة في وجه القتلة المرتجفين إلا من وحشية القتل، مختبئن داخل قمرة دبابتهم لإنجاز مهمة استكمال الإبادة التي أمرهم بها المجرم نتنياهو . أما الصورة الثانية، فقد أظهرته يدخل بوابة قمرة الدبابة، مختفياً إلى مصيره كما مصير آلاف الأسرى الفلسطينيين الذين يساقون إلى معسكرات الاعتقال الفاشية .
توقفت قلوب كل من سمع وشاهد الطبيب حسام على مدار أشهر الحرب يبث رسالة الصمود التي أظهرها أهل غزة، وفي مقدمتهم الكوادر الطبية، الذين تفوقوا على أنفسهم في الوفاء لرسالة الحياة. فكان ذلك للقتلة سبباً لاغتيال المئات منهم، وتدمير عشرات المنشآت الطبية، ومئات سيارات الإسعاف، والتي كان آخرها اغتيال مستشفى الشهيد كمال عدوان ، الذي قاد صمود رسالته د. حسام أبو صفية .
أعاد اعتقال حسام للذاكرة التي لم تجف بعد مشهد اعتقال د عدنان البرش جراح العظام الشهير و رئيس قسم جراحة العظام في مستشفى الشفاء، الذي تُوِّجَ بفعل تضحياته متنقلاً من مشفى إلى بقايا آخر لإنقاذ حياة الجرحي، بوسام الحياة المستحق الذي يتحدي ما يزرعه المجرمون من موت . الخوف على حسام هو أن يلقى مصير عدنان شهيداً تحت التعذيب في سجن سدي تيمان، الذي شهد فضائح اغتصاب للأسرى يندى لها جبين الإنسانية . فعنصرية الفاشيين على ما يبدو تستكثر على الفلسطينيين مثل هذه الكفاءات الرفيعة والالتزام الوطني الذي لم يشهده تاريخ المنطقة. فكلاهما كان بامكانه أن يغادر القطاع، وليس فقط رأس عملهما، إلا أن ضميرهما الطبي ورسالتهما الإنسانية وقفت خلف مواقفهما البطولية، في مواجهة الإبادة والتهجير.
لم يتورع عسكر الفاشية الجديدة من قتل نجل د.حسام الشهيد إبراهيم خلال اقتحام المستشفى في 26 أكتوبر/ تشرين أول الماضي، كي يجبروه على مغادرة المستشفى، إلا أن اصراره على الوقوف على قيادة طاقمه الطبي جعله يختار دفن فلذة كبده تحت جدار المشفى، مصلياً عليه والدموع تملئ عينيه. فليس هناك أقسى من مثل هذا المشهد. كما أن إصابته المباشرة في قدمه بنيران الغزاة، لم تدفعه لتغيير موقفه، بل زاده اصراراً على البقاء.
هؤلاء هم الأبطال الحقيقيون. وقد تطرقت في مقال سابق لنماذج مشرفة من أمثالهم في قطاع غزة، والذين صمدوا فيه، ولا يجدوا وقتاً سوى لإنقاذ أرواح الناس، يمدونهم بما توفر من شريان الحياة ، ولعل رجال الدفاع المدني، الذين يُضَحون بأرواحهم لإنقاذ طفلة ما زالت قادرة أن تصرخ بألمها تحت الأنقاض ، ومُعَداتهم الوحيدة هي أيديهم المجردة، وإرادتهم التي لا تهتز، يعتلون قائمة شرف البطولة التي لا تنتهي، بل وتمتد لكل غزيٍّ يكافح من أجل النجاة والحياة والحرية والكرامة الإنسانية .
حتى كتابة هذه السطور لم يعرف مصير حسام أبو
صفية، ولكنه بكل تأكيد استحقّ وسام البطولة، كما يستحقه المليونا فلسطيني في قطاع غزة، الذين تُركوا وحيدين يواجهون مصيرهم بين الإبادة والتهجير. ويبدو أن الأشقاء أيضاً قد تخلوا عن هذا الجزء العزيز من فلسطين، والذي طالما كان رافعة الوطنية الفلسطينية وحارسها الأمين. فهل هي صدفة أنه في الوقت الذي كانت قوات الاحتلال تُجهِز على مستشفي كمال عدوان، كانت تصوب رصاصة إلى الصحافية الشهيدة شذى الصباغ في جنين، لتغتال معها رسالة الشهيد كمال عدوان القائد الفتحاوي المؤسس، الذي سقط شهيداً مع القائدين أبو يوسف النجار وكمال ناصر برصاص المجرم أيهود باراك في عملية الفردان الشهيرة في بيروت عام 1973؟!