حسن عصفور وصفحةٌ من عتاب..د. أحمد يوسف

من حين لآخر اتابع ما تكتبه النخبة الفلسطينية، فإذا ما استوقفني شيء غثٌّ أو سمين أطلقت قلمي للرد عليه، فأنا -في رسالتي- ناصح أمين.

قبل عام ونصف العام، كان لي مقال عبارة عن ردٍّ على ما سبق أن كتبه الأخ حسن عصفور؛ الوزير السابق، في افتتاحية له على موقع (أمد للإعلام)، حيث أورد الكثير من الادعاءات والاتهامات حول حركة حماس والأستاذ خالد مشعل.

افترقنا حينها دون مصارحة أو عتاب، ولم أعد أتردد على الموقع قارئاً أو كاتباً.. ومع صداقتنا، التي آثر كلٌّ منّا الحفاظ عليها لسنوات رغم التباينات السياسية واتساع فجوة الخلاف الفكري بيننا، ألا أننا جعلنا من “شعرة معاوية” الرابط الذي يجمعنا، وديدن التواصل لتبادل الرأي والمشورة فيما يخصنا من الشأن الفلسطيني، وكانت سعة الصدر -لكلٍّ منَّا- فيها مساحة كافية تسمح بالمصارحة والنقد لأخذ مجراهما دون تشنج أو تعصب وانحياز.

اليوم، عُدت بعد فترة من القطيعة مع الموقع وانقطاع عن الدردشات بيننا لتصفح ما يكتب صديقنا حسن عصفور (أبو علي)، أملاً في قراءة شيء جديد غير ما عودنا عليه من الانتقاد والتجريج والتبخيس والتحليل المبني دائماً على التوجس وسوء الظن.

للأسف، لم يتغير صديقنا حسن (أبو علي)، وظل رأيه في حماس واجتهاداتها وأدبياتها السياسية “عنزة ولو طارت”!!

ففي مقال نشره مؤخراً تحت عنوان (حماس من “محور المقاومة”…إلى “محور لِّس”)، بتاريخ 17 إبريل 2023، استهدف فيه الحركة، وعلَّق باستخفاف على تصريحات ومواقف بعض قادتها، وكان كعادته له “رأي آخر” وكأنه حكيم الزمان، الذي ما فتئت حماس لا تأخذ برأيه ولا برؤياه.

ففي تعليق له على ما صرَّح به د. موسى أبو مرزوق القيادي في حركة حماس، والذي أوضح فيه موقف الحركة من موضوعة “محور المقاومة”، بالقول: “إنَّ حماس ليست جزءاً من أيِّ محورٍ سياسي أو عسكري، بغض النظر عن الاسم والعنوان، فنحن حركة مقاومة إسلامية نسعى لعلاقات مع كلِّ القوى الحيِّة في المنطقة والعالم، وليس لنا عداءٌ مع أيِّ مكوِّنٍ سوى العدو الصهيوني، ونشكر كلَّ من يقف معنا مساعداً ومعيناً، وليس هناك من علاقة مع أيِّ طرفٍ على حساب طرفٍ آخر”.

في الحقيقة، هذا هو الموقف الذي أوضحته الحركة في ميثاقها أو كما جاء في ورقة السياسات الصادرة عام 2017.. والنص بشكل عام وفي إطار السياسة والدبلوماسية ليس فيه ما يُعيب حركة حماس، بل إنَّ ما أورده د. موسى أبو مرزوق هو عين البلاغة والرشد في لغة الخطاب السياسي، وخاصة في ظل حالة التدافع والاستقطاب التي عليها الأمة، حيث إنَّ وضعية “الاصطفاف” مع جهة أو محور لأي حركة تحرر وطني مثل حركة حماس معناها حالة من الانتحار السياسي مع سبق الإصرار والترصد. وهذا خطأ استراتيجي لا أعتقد أن الحركة بهذه السذاجة لتقع فيه، فالقضية الفلسطينية -كانت وما تزال- هي قضية الأمة المركزية، وأنَّ أيّ انحرافٍ عن هذا الفهم يعني السقوط والتردي في “لعبة الأمم-الدول”، وإذا حدث هذا، فقل -عندئذ- على مقاومتنا وقضيتنا السلام.

المهزلة أن صديقنا الأخ حسن (أبو على) المحنَّك سياسياً علَّق على هذا الموقف للدكتور أبو مرزوق بالقول: “يمكن اعتبار تلك التغريدة تُجسِّد حقيقة موقف د. موسى، فربما هو أكثر شخصيات الحركة رفضاً للمحورة، ولذا يمتلك علاقات إيجابية مختلفة، لكن ما قاله لا علاقة له بحقيقة موقف حماس وقيادتها المقررة”!!

الحقيقة إن ما سبق أن قاله د. أبو مرزوق لم يخرج عن خط الحركة العام ولا عن نهج قيادتها، ولكن وكما هو معروف فإنَّ لكلِّ شخصية قيادية أسلوبها في التعبير عن رؤية الحركة ومواقفها السياسية، إذ ليس من الصعب الحديث عن “محور للمقاومة” بمعنى حشد الجهد والموقف داخل مجموعة لها قراءة تحظى بالأجماع فيما بينها على آلياتٍ لمواجهة عدّوٍ يمكر بها ويتربص بها وبوجودها الدوائر، فإذا افترضنا جدلاً أن حماس قد التقت مع إيران وسوريا وحزب الله على رؤية للتصدي لإسرائيل، فهل هذا تحالف ضد مصالح العرب والمسلمين يستدعي ما أورده صديقنا حسن من الطعن والتشكيك.

ربما التبس على البعض – ومنهم الأخ حسن عصفور- ما جاء في كلمة الأخ يحي السنوار “العاطفية”، والتي ربما كان لها ما يبررها بسبب الهجمة الصهيونية الشرسة على المسجد الأقصى والمرابطين فيه.  

يا أخ حسن.. لولا هذا الموقف من نداء “وحدة الساحات”، والرد الصاروخي الجريء والنبرة العالية التي حملت رسائل واضحة باستعداد الذهاب للحرب إذا استدعت مقتضيات التحريض، الأمر الذي منح المرابطين في الأقصى جرعة معنوية عالية، وإلا لشهدنا في نهايات شهر رمضان الكريم وضع أول حجر أساس ونقطة ارتكاز لتقسيم المسجد -زمانياً ومكانياً- لما يمكن أن يدَّعيه المتطرفون من أتباع الصهيونية الدينية وقطعان المستوطنين بوجود (أثر يهودي مقدس)، يمنحهم الحق في الدخول والتواجد داخل المسجد الأقصى، كما جرى سابقاً في الحرم الإبراهيمي بمدينة الخليل.

لقد كانت “صواريخ حماس” من لبنان مجرد تحذير وجرس إنذار لإسرائيل -المتصدِّعة داخلياً- بأن هناك جبهة على أكثر من ساحة في الجوار، جاهزة لإطلاق صواريخها إذا ما تعذر الردع بحشود المُصلِّين والمرابطين وهدير تكبيراتهم.

وبناءً على مشهدية تلك الأحداث والوقائع، تراجعت -يا أخ حسن- إسرائيل نتنياهو ومعسكر بن غافير- وسموتريش من الصهاينة المتطرفين عمَّا بيتوه بليل بخصوص تهويد مقامٍ لهم داخل ساحات المسجد الأقصى.

لقد استوعبت إسرائيل الرسائل التي أطلقتها الساحات، ولا شكَّ أنها تفكر بطريقة أخرى لتحقيق مآربها، وسجالاتنا معهم ستظل رهن ما نمتلكه من شكيمة وقوة في الرد.

أما فيما ذكرته من اتهام بأن حركة حماس ومنذ انطلاقها كانت تعمل على أن تكون “كبديل مواز لمنظمة التحرير أو شريك مواز لحركة فتح في مرحلة انتقالية إلى حين إكمال الاستبدال”.

في الحقيقة -يا أخ حسن- هذا كلام يفتقد إلى المصداقية، وأنا شاهد على مثل هذا اللغط الذي جرى على ألسنة بعض إخواننا في حركة فتح في أواخر الثمانينيات، وكان ردِّي على ذلك الادعاء -حينذاك- على شكل كتاب، بعنوان (حماس حدث عابر أم بديل دائم؟!) وقد أوضحت فيه أنَّ المسألة ترجع إلى خيارات الشعب الفلسطيني، فالذي سيمنح حماس فرصة التمثيل أو يحرمها منها هي الانتخابات؛ أي الخيار الشعبي وليس أي خيار آخر، وهذا ما صارت عليه الأمور وواقع الحال؛ فالانتخابات التشريعية ونتائجها هي من منح حماس المشروعية السياسية وليس أي شيء آخر.

أما ما يثير الغرابة والاستهجان فهو هذا الاستخفاف بقرار قيادة الحركة واجتهادها فيما يتعلق بقرار “مغادرة سوريا” إبَّان المحنة الدامية التي مرَّت بها البلاد، إذ تقول بشكل لا يليق بذكائك السياسي: “يكفي التذكير بمسار علاقتها بالشقيقة سوريا، وكيف غادرت بناء على طلب محور أمريكا في حينه لضرب وحدة سوريا وتقسيمها في سياق مؤامرة أوباما”!!

إنَّ مسألة العمل من داخل الساحة السورية -يا صديقي- فقد جاءت بتوافق الطرفين ورغبة إخواننا في إيران وحزب الله، حيث كانت سوريا داعمةً لخيار المقاومة وحاضنةً لها، لذا أقبلت الحركة وحصلت قيادتها على “المثابة الآمنة” التي طلبتها، وهذا ما شكرت عليه النظام في سوريا، ولم تخرج عن قواعد العمل وحدود التحركات التي تمَّ التوافق عليها.

بعد ثورة الربيع العربي التي طالت سوريا، وانغماس الشارع السوري في حِراكاتها وطغيان مشهد القتل والدماء، والمحاولات التي بذلتها قيادة حماس لرأب الصدع، ولكنها -للأسف- لم تكلل بالنجاح، مما دفع الحركة لاتخاذ قرارها الجماعي بالمغادرة خشية التورط في سلوكيات “الاصطفاف”، التي نأت بنفسها عنها منذ انطلاقتها عام 1987.

أما خالد مشعل؛ والذي لم ترقب فيه إلّاً ولا ذمَّة، فقد كانت رؤيته -آنذاك- مع إخوانه في قيادة الحركة فيما يتعلق بقرار مغادرة سوريا اجتهاداً له وجاهته، وذلك لطبيعة الصراع الدائر في البلاد -حينذاك- وإن كانت قيادة الحركة لم تتنكر يوماً لما قدمته القيادة السورية لها من حُسن الضيافة، حيث أريحية المكان والتسهيلات المقدرة لحركتها في الميدان.

للأسف لم تتوقف اتهامات الأخ حسن عصفور في مقاله عند ما ذكرناه آنفاً، فقد واصل التجني على الحركة من جهة موقفها من الرئيس الشهيد ياسر عرفات والسلطة الفلسطينية، وإن كانت تلك الفترة شديدة التقلب في المواقف، وكانت السياسة فيها -من جهة الطرفين- تعجّ بالاتهامات، وقد كان لقيادة حماس والأخ خالد مشعل في بعض مراحلها مواقف تستحق الشكر والتقدير، فحين كان الشهيد أبو عمار في دائرة الاستهداف من قبل الخصوم والأعداء، كانت تصريحات قيادة حماس وعلى رأسها الأخ خالد مشعل رئيس الحركة داعمة له، وقد سجَّلتُ في كتابي (ياسر عرفات.. ذاكرة لن تموت) الكثير من الكلام الطيب على ألسنة إخواننا في حركة حماس عن تاريخ ومواقف ونضالات الأخ أبو عمار (رحمه الله وأكرم مثواه).

أما ما حاولت الغمز واللمز فيه -يا صديقي- حول “زيارة العمرة”، وهو بالمناسبة خطوة ذكية في السياسة، فلا أظن أنك كنت موفقاً فيه.. فأنت تعلم -وهذا أمر لا يغيب عنك- أن إصلاح ذات البين بين السعودية وإيران هو حدث له دلالاته وأبعاده الاستراتيجية على المنطقة بأكملها، وأن على القوى الحيَّة فيها أن تعيد حساباتها وتصويب بوصلتها باتجاه متطلبات الميدان، ولذا كانت خطوة حماس تهدف بلا شكٍّ لما وراء العُمرة من لقاءٍ بالقيادة السعودية، وذلك بغرض فتح الباب لعودة العلاقة مع المملكة، كي تأخذ السعودية دورها الذي لا يمكن تجاهله أو الاستغناء عنه تجاه قضيتنا الفلسطينية، وفرص الحلول والتسويات التي قد تواجهنا أو تُفرض علينا مستقبلاً.

يا أخ حسن.. إنَّ عليك أن تفهم بأن حركة حماس هي حركة تحرر وطني برؤية إسلامية وراية فلسطينية، وهي حركة لها اجتهاداتها في السياسة التي قد تصيب فيها وقد تخطئ، ورجالاتها ليسوا مبرأين من كلِّ عيب، وإن كنَّا ندعو لهم أن يكونوا من المصطفين الأخيار.

إنَّ المشكلة معك يا أخ حسن أنَّك لا ترى فيما تقوله حماس أو تفعله خيراً، وتنكر عليها كلَّ صنائع المعروف، وما وطَّنته من ثقافة المقاومة وفكر الانتصار، وتُخفي -للأسف- في نفسك ما الله مبديه على لكنة لسانك وتجاعيد قلمك.

وحول سؤالك: أي حماس هي الأصدق الآن.. “حماس محور المقاومة” أم “حماس محور لِّس”؟ أجيبك -يا أستاذ حسن- أن السؤال في أصله خطأ، وتلك هي المسألة! حيث إن حركة حماس ومنذ انطلاقتها هي حركة مقاومة، ولم تقم بإنشاء أيّ علاقة خارج حسابات الفعل المقاوم، وأنَّ أيَّ مظاهرٍ لتحالفات فهي في السياق المقاوم للاحتلال، ولم تكن لتقف أو تصطف في مشهد نضالي غير ذلك المعادي للكيان الصهيوني الغاصب.

 لقد حاولت حركة حماس وعلى طول مسيرتها ورصاص بنادقها أن يكون مؤشر البوصلة هو صدر الاحتلال. نعم؛ قد تكون هناك بعض الانحرافات والأخطاء التي وقعت، ولكنها كانت كزلَّة قدمٍ بعد ثبوتها أو ككبوة لفارسٍ خذلته قدماه.  

يا أخ حسن.. أنت شخصٌ لا تفتقر إلى الذكاء، ولكنَّ أجندة السياسة والأيدولوجيا الفكرية التي تُحرِّك قلمك فيها الكثير من الشطط والمكر السيء. أدعو الله أن لا تأخذك العزة بالإثم وتراكمات البغضاء وشنآن الخصومة السياسية لحركة حماس دون قول كلمة الحق والحكم بالعدل.

ختاماً.. نحن لم نقل يوماً أن قيادة حماس بلا أخطاء أو عيوب، فالقوم لهم أفكارهم واجتهاداتهم السياسية، ولكن -يا أخ حسن- عليك أن تلتمس للناس بعض العذر، وأن تنصح لهم ولغيرهم ولكن بالتي هي أحسن أو كما قالت العرب: “خبطةٌ على الرأس وأخرى على الحافر” حتى تتوازن آفاق التحليل والمشاعر.

أتمنى -يا أخ حسن- أن يستقيم ما تخطه بيمينك، ليس بغرض إصلاح ذات البين مع حماس، ولكن من أجل خير الوطن واستقراره، فالتشهير أشبه بـ”فساء الشياطين” ولا طائل من ورائه، فالبذور -يا صديقي- لا تنبت في مثل هذا الهواء.