12:31 م
الثلاثاء 21 سبتمبر 2021
كتب- أحمد شعبان:
غلاف- مايكل عادل:
في الثلاثينيات خرج الجنين إلى الوجود، وجه أسمر وملامح جنوبية، وفي الأربعينيات التحق بمدارس القاهرة، وفي الخمسينيات كان التخرج من الكلية الحربية في حرب 1956، وفي الستينيات خاض حرب 1967، وحرب الاستنزاف، وصولاً إلى حرب أكتوبر في السبعينيات، التي خرج منها ليتدرج في المناصب حتى أصبح على رأس الجيش في أوائل التسعينيات، وفي مطلع العقد الثاني من الألفية الثالثة وجد نفسه، وهو في الخامسة والسبعين، يدير شؤون البلاد بعد ثورة شعبية أسقطت الرئيس.
من 1935 إلى 2011 وما بعدها، عاش المشير محمد حسين طنطاوي -الذي رحل اليوم عن عمر85- ومعه مصر أحداثاً كثيرة وتحولات عاصفة على مستويات عدة، فمن ملكية إلى جمهورية صبياً وطالباً، ومن هزيمة عسكرية إلى نصر وعبور محارباً وقائداً، ومن حرب تحرير الكويت إلى غزو العراق وزيراً ومشيراً، وصولاً إلى ثورات الربيع العربي حاكماً ورئيساً.. فصول من حياة الرجل وصفحات من تاريخ مصر.
المكان: حي عابدين بالسيدة زينب، في قلب القاهرة. الزمان: 31 أكتوبر 1935. فوران في العاصمة، وزارة محمد توفيق نسيم والقصر على بعد أيام من انتفاضة شعبية، بدأت في القاهرة وامتدت إلى الأقاليم، ونجحت في الإطاحة بالوزارة وعودة العمل بدستور 1923. في ذلك اليوم، وُلد محمد حسين طنطاوي، لأسرة نوبية من أسوان.
نشأ طنطاوي بين شوارع القاهرة وحواريها، التحق بمدراسها حتى حصل على الثانوية العامة من مدرسة الخديوي إسماعيل الثانوية بمنطقة السيدة زينب، فيما ظلّ حلم الالتحاق بالكلية الحربية يداعب خيالات الصبي، تحقق الحلم وتخرج منها في الأول من أبريل عام 1956 العاصف.
اندرج طنطاوي في سلك الضباط بسلاح المشاة، وبعد أشهر قليلة سيصير قائد فصيلة مشاة في حرب العدوان الثلاثي، التي بدأتها إسرائيل قبل يومين فقط من ذكرى ميلاده. أتم محمد حسين طنطاوي عامه الحادي والعشرين على الجبهة، مقاتلاً يذود مع رفاقه ضباطاً وجنوداً، ومن خلفهم مقاومة شعبية، عن وطن يبحث عن استقلاله وكبريائه في وجه عدوان غاشم، فشلت أطرافه في تحقيق أهداف عملياتها العسكرية على مصر.
طنطاوي، ابن الدفعة (35) الذي تتلمذ على يد الفريق محمد فوزي أبو العسكرية المصرية الحديثة، عَرف في ساحات القتال معنى الدفاع عن الأرض، والحفاظ على أمن البلاد، كيف يكون القتال بضراوة في معارك المصير، أدرك كلمات جمال عبد الناصر وقت العدوان “لو لم نقاتل اليوم فلن نقاتل أبداً، لا بد لنا من القتال حتى لو أجبرنا على الانسحاب إلى الوجه القبلي واللجوء إلى حرب العصابات”. دروس مبكرة حصل عليها الضابط في بداية مساره المهني، أُثقلت لاحقاً بخوض حرب 1967 وحرب الاستنزاف. دروس نقلها “طنطاوي” لأجيال من الضباط، تتلمذوا على يديه في فترة الستينيات، خلال عمله معلماً بالكلية الحربية. فيما كان على موعد مع درس أكبر وبطولة لافتة في حرب أكتوبر المجيدة.
“بسم الله الرحمن الرحيم، العميد أركان حرب محمد حسين طنطاوى قائد الكتيبة 16 مشاة فى حرب أكتوبر..”، ببدلة عسكرية، وصوت يليق بقائد في جيش منتصر، ظهر “طنطاوي” في تسجيل تليفزيوني نادر، بعد انتهاء الحرب بفترة ليروى بطولات كتيبته، صاحبة معركة “المزرعة الصينية” الشهيرة، التي مُنيت فيها إسرائيل بخسائر فادحة، باعتراف قادتها.
السادس عشر من أكتوبر 1973، اليوم العاشر من الحرب والمعارك مستمرة بضراوة بين مصر والعدو الإسرائيلي، الذي حاول في ذلك اليوم العبور لغرب القناة وإقامة كوبري على ضفتي القناة بمنطقة الدفرسوار لمحاصرة السويس والجيش الثالث. على الضفة الشرقية للقناة، تقدم أربيل شارون بقواته المدرعة للاختراق، فيما أهداهم المقاتلون المصريون كابوساً لم يستيقظوا منه، أطبق على صدورهم وكبّدهم خسائر فادحة.
في الشريط التليفزيوني روى “طنطاوي” تفاصيل ما جرى في المعركة الشهيرة استناداً إلى رواية الإسرائيليين أنفسهم عن الخسائر التي لاحقتهم، قبل أن يحكي ما شاهده وعاينه بنفسه، كقائد للكتيبة التي تصدت مع غيرها لهجوم مدرعات العدو، ثم عرج على ذكر بطولات كتيبته، موجهاً التحية لأفرادها وأدوارهم اللافتة في الحرب.
وقت الحرب، كان “طنطاوي” في الثامنة والثلاثين من عمره. سنوات قضى نصفها تقريباً مقاتلاً في جميع حروب مصر الكبرى، أثقلت شخصيته العسكرية، ورسمت ملامحها، مقاتل ذكي، يُجيد التخطيط، وتكتيكات الخداع في المعارك، يتحلّى بالصبر، قبل أن يكشف أوراقه للعدو، يحبس نيران مدفعيته، حتى يعاين ويقدّر حجم قوة العدو بدقة، وحين تحين اللحظة المناسبة، تنطلق نيران أسلحته وقذائفها لتوقع الخسائر بالعدو.
وضعت الحرب أوزارها، هو الآن يبدأ عامه التاسع والثلاثين، سيستمر “طنطاوي” بضع سنوات في عمله بالجيش، ثم رحلة قصيرة للعمل ملحقاً عسكرياً لدى باكستان عامي 1977 و1978، يعقبها عودة إلى مصر، ليستكمل رحلته الطويلة الممتدة داخل القوات المسلحة، يتدرج في المناصب القيادية، حتى يصبح قائداً للجيش الثاني الميداني، ومنه إلى قيادة الحرس الجمهوري، ثم رئيساً لهيئة عمليات القوات المسلحة، ثم وزيراً للدفاع في 20 مايو 1991.
بعد إنجازات عديدة قادته إلى الحصول على أوسمة وأنواط عسكرية مختلفة، أصبح “طنطاوي” وزيراً للدفاع وقائداً عامة للقوات المسلحة، ليُصبح أول وزير دفاع من خريجي الكلية الحربية ما بعد ثورة يوليو 1952، وسيقضي أطول مدة وزير دفاع في تاريخ مصر الحديث، حيث استمر في منصبه لنحو 20 عاماً، جرت فيها مياه كثيرة في نهر مصر.
حين جاء “طنطاوي” إلى منصبه الوزاري، كان الرئيس مبارك يبدأ عقده الثاني في الحكم، مرت بضع سنوات على إطاحته بوزير دفاعه المشير عبد الحليم أبو غزالة في مشهد درامي أواخر عقد الثمانينيات، وهو العقد الذي بدأت فيها العلاقة بين مبارك وطنطاوي، بعدما وقع اختيار الرئيس على طنطاوي لتعيينه قائداً للحرس الجمهوري عام 1987. هذه العلاقة التي دخلت مرحلة جديدة مع تعيين طنطاوي وزيراً للدفاع، وامتدت لعقدين، وسط ظروف ومواقف متباينة، وعلاقات مختلفة بين المُشير ورجال نظام مبارك.
وجد مبارك في “طنطاوي” شخصاً غير طموح في السلطة، فقد كان متجهماً حين اختير لرئاسة الحرس الجمهوري، وكان يحب أن يكمل حياته في المجال العسكري، على ما روى مصطفى الفقي، سكرتير مبارك للمعلومات في برنامجه “سنوات الفرص الضائعة”، الذي قال فيه أيضاً: “كان لطنطاوي حظوة معينة لدى مبارك، كان شخصية قوية تفرض نفسها ولا يقبل أن يُعامل بشكل غير عسكري”.
ظل المُشير طنطاوي بعيداً عن الأضواء خلال عقدين من حكم مبارك، ظهوره الإعلامي نادر، يفسّر الفقي ذلك بأنه “قرأ شخصية الرئيس بذكاء، فمبارك، مثل كل الرؤساء، كان لا يريد لقائد الجيش أن يكون تحت الأضواء ويتمتع بشعبية قوية”، ويستشهد الفقي في ذلك بإطاحة مبارك لأبو غزالة، الذي أرجعه إلى “قلق الرئيس من المشير وحب الناس للأخير وشخصيته ذات الحضور اللافت”.
لكن الحال تغيّر عند نهاية العقد الثالث لحكم مبارك.
الخامس والعشرين من يناير عام 2011، مظاهرات حاشدة تُطالب بإسقاط الرئيس، الذي ينتهي به الحال بعد 18 يوماً من اندلاع ثورة يناير، إلى الرحيل عن السلطة مُجبراً، فيما سيجد المُشير طنطاوي، وهو في الخامسة والسبعين من عمره، نفسه يتولى رئاسة مصر بصفته رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، الذي أسندت له مهمة إدارة شؤون البلاد في الفترة الانتقالية.
في هذه الفترة، كان المُشير في دائرة الضوء، ينتظر الشعب باهتمام، أحاديثه وتعامله، ومن ورائه المجلس الأعلى للقوات المسلحة، مع الأحداث والتطورات المتلاحقة التي شهدتها مصر بعد سقوط مبارك، فيما كان طنطاوي يؤكد على أن: “القوات المسلحة واجهت في الماضي عدواً ظاهراً وهزمته وكان يقف خلفها شعب مصر العظيم، فكان نصر أكتوبر، وكان أسهل مما نحن فيه الآن، لأن هناك من يعملون مع الخارج ويحاولون أن يثنونا عن دورنا وعزمنا في حماية مصر وشعبها، ونحن لن نسمح بذلك، ومستمرون في أداء مهامنا حتى نصل بمصر إلى بر الأمان”.
لم يكتُب المُشير طنطاوي شهادته، من الحرب إلى السلام، ومن سقوط نظام مبارك إلى ثورة يناير والأدوار التي لعبها بعد اندلاعها، والأزمات التي واجهته، لكنه يظلّ صاحب دور بارز وشاهداً على أحداث وتحولات عاصفة في مصر، عايشها محارباً وقائداً ومُشيراً.