حكومة وفاق حتى لا توافق المنظمة على ما هو اسوأ..

هاني المصري

بدأت القصة بمحاولات دولة الاحتلال إيجاد جهات محلية تقوم بإدارة السكان في قطاع غزة تحت الاحتلال، وفي ظل مواصلة حرب الإبادة والعدوان، ولم تنجح المحاولات السابقة باللجوء إلى العائلات والعشائر أو عناصر أمنية سابقة أو لا تزال على علاقة بالسلطة، ولكن من دون تكليف منها. وفكّر الاحتلال باللجوء إلى الحكم العسكري المباشر ولا يزال يفكر، ثم يجري التفكير بتكليف شركات عالمية.

وجد الحكم العسكري المباشر لقطاع غزة والإعراب عن نية الاحتلال تهجير الغزيين معارضة محلية إسرائيلية ودولية، وتحديدًا أميركية بعد الرفض العربي، في سياق رفض عودة الاحتلال إلى قطاع غزة وقطع الطريق على قيام دولة فلسطينية، وهذا فتح الباب للتفكير في حلول، منها فكرة تشكيل لجنة إسناد مجتمعي لتجاوز الرفض الإسرائيلي.

لجنة الإسناد مسمار جديد في نعش الدولة الفلسطينية 

في هذا السياق، جاءت فكرة تشكيل لجنة إدارية، ثم تغير اسمها وحملت اسم “لجنة إسناد مجتمعي”، لتتولى إدارة قطاع غزة أثناء الفترة الانتقالية من الآن وحتى وقف العدوان وحرب الإبادة وانسحاب القوات الإسرائيلية من المناطق التي احتلتها، والسؤال هو من الذي يضمن أو يعزز أن تشكيل مثل هذه اللجنة سيساعد على التوصل إلى صفقة تبادل أو وقف إطلاق نار أو انسحاب إسرائيلي وعودة السلطة إلى القطاع؟

من الممكن أن يحدث العكس؛ أي يعتبر تشكيل اللجنة مدخلًا لتحقيق مزيد من المطالب الإسرائيلية، خصوصًا بعد فوز دونالد ترامب، وتوقع أنه سيكون أكثر اندفاعًا من سلفه في دعم حكومة اليمين المتطرف.

في هذا السياق حسنًا فعلت منظمة التحرير برفضها تشكيل لجنة الإسناد المجتمعي بعد أن بدا حصول توافق عليها في القاهرة بين وفدا حركتي حماس وفتح، في تجاوز لتفويض الرئيس محمود عباس الذي أراد من وفده البحث فيها من دون إقرارها.

ورفض اللجنة مفهوم لأنها تنازل مجاني، وتكرس الانقسام، وتضعف الموقف الفلسطيني وتجزئ الموقف المنصوص عليه في قرار صادر عن مجلس الأمن وعن قرارات صادرة عن المؤسسات الفلسطينية وعن اجتماع الفصائل في بكين التي أكدت وحدة الضفة والقطاع، وأهمية تجسيد دولة فلسطين، وعودة السلطة إلى قطاع غزة وإلى مسؤولية منظمة التحرير، إضافة إلى أهمية تشكيل حكومة وفاق وطني، وتفعيل الإطار القيادي المؤقت إلى حين إعادة بناء مؤسسات منظمة التحرير وإجراء انتخابات.

لجنة الإسناد هي مسمار جديد في نعش الدولة الفلسطينية كونها تكرس الفصل بين الضفة والقطاع من دون دعم دولي أو إقليمي؛ أي بلا ضامن ولا ممول. وهي لا توافق عليها الحكومة الإسرائيلية ولا الإدارة الأميركية، ما يجعل تشكيلها إشارة ضعف وتنازل من دون مقابل، الأمر الذي يشجع دولة الاحتلال على طلب تنازلات إضافية تكرّس الانقسام بين الضفة والقطاع، وتقسيم القضايا إلى قضايا والمواضيع الرئيسية إلى مواضيع تفصيلية والانسحاب إلى مراحل، وكذلك وقف إطلاق النار لتصبح الهدنة من دون وقف لإطلاق النار، أي تسعى تل أبيب إلى استخدام الحاجة الإنسانية الملحة جسرًا للتنازل عن قضايا جوهرية من دون ضمانات بحل الاحتياجات الإنسانية.

لماذا تلح مصر على تشكيل لجنة الإسناد؟

إذا كانت اللجنة محل البحث تحتوي كل هذه المخاطر، فلماذا بادرت إليها مصر، وتسعى بإلحاح إلى إقناع الرئيس والمنظمة بها؟

إذا بحثنا في الأعماق عن الأسباب أو السبب الرئيسي وراء الموقف المصري، سنجد أنه يعود إلى محاولة من مصر لتسويقها على أمل أن تساعد في إنضاج متطلبات اليوم التالي للحرب، وإزالة الذريعة من يد الاحتلال التي يستخدمها لعدم إيقاف الحرب، بحجة منع عودة سلطة حماس.

كما ترى القاهرة أن تشكيل اللجنة سيساعد على التوصل إلى صفقة تبادل أسرى ضمن اتفاق على وقف كلي أو جزئي لإطلاق النار. فتشكيل اللجنة من دون مشاركة ممثلين عن فتح وحماس وبقية الفصائل يشكل استجابة لجوهر ما تطالب به دولة الاحتلال من رفضها لبقاء سلطة حماس، أو لعودة السلطة إلى قطاع غزة، على أمل أن يكون ذلك خطوة على طريق عودة السلطة ورحيل الاحتلال ووقف الإبادة والعدوان، ولكن هذا غير مضمون، بل يمكن أن يحدث العكس ويزداد الموقف الإسرائيلي تعنتًا.

لجنة بلا مال ولا أمن كيف ستعمل؟

ما يشير إلى هذه النوايا المصرية، أن المقترح الذي قدم لوفدي حماس وفتح يتضمن تشكيل اللجنة بمرسوم رئاسي، وعودة السلطة إلى معبر رفح كما كان الأمر منذ اتفاق 2005، والتأكيد على مرجعية الحكومة للجنة الإسناد المجتمعي، مع أن هذا التأكيد يضعفه ما ورد في المقترح عن تواصل اللجنة تارة وتنسيقها تارة أخرى مع الحكومة، فهل تنسق الحكومة مع لجنة مرجعيتها هي، والأخطر عدم تضمين المقترح أي إشارة للأمن، ما يترك فراغًا يمكن تفسيره بأنه يترك الباب لتشكيل نوع من الوصاية العربية والإقليمية والدولية والإسرائيلية، من خلال تشكيل قوة عربية أو عربية دولية متعددة تشارك فيها القوات الأميركية، وهذا يجعل اللجنة منفصلة فعليًا عن السلطة والحكومة أو علاقتها بها باهتة، على الرغم من تأكيد أن الحكومة مرجعيتها في بنود عدة، خصوصًا في ظل ترك مسألة الأمن والمال خارج اختصاصات اللجنة، كما يظهر من خلال ترك التمويل لصندوق دولي يشارك فيه ممثل عن وزارة المالية الفلسطينية، أي غير خاضع لها ولا هي المرجعية.

ويضعف المقترح أن واشنطن لا تثق به، وتسعى في الوقت نفسه وبشكل موازٍ إلى تشكيل لجنة مقرها القاهرة منفصلة عن السلطة، بما فيها الحكومة، ومسلحة بقوة متعددة عربية دولية، يكون من ضمنها قوات أميركية، وتكون إجراء مؤقتًا إلى حين قبول الحكومة الإسرائيلية بعودة السلطة إلى قطاع غزة، أو تشكيل حكومة إسرائيلية تقبل بذلك، وهذا ينطبق عليه المثل “موت يا كديش تا يجيك الحشيش”.

ويمكن أن تستخدم اللجنة منصة لتشكيل لجنة أخرى بيدها القرار والأمن والمال ومنفصلة عن السلطة وضد حماس. وهناك أنباء مؤكدة عن اتصالات أميركية مع شخصيات فلسطينية لحثها على المشاركة في هذه اللجنة مع تطمينات قوية وإغراءات مالية دسمة.

وما يزيد الطين بلة أن الانصياع الأميركي للمطالب الإسرائيلية لا يقتصر على هذا الحد، بل يصل كما ورد في الأحاديث الأميركية من تخصيص مساحة كبيرة من سيناء لإقامة مناطق صناعية وزراعية واستثمارية يشتغل فيها الغزيون بالترافق مع ميناء بحري ومطار.

وتوحي هذه الفكرة، التي ليس من السهولة أن توافق عليها مصر، بالحرص على حياة وعمل أهل غزة الذين لن تكون فيها أراضي قابلة للحياة لفترة من الوقت، وبذلك لا توجد فرص عمل حتى إشعار آخر، وهذا يصب في الحقيقة في خدمة هندسة قطاع غزة بشريًا وجغرافيًا، وتهجير سكانه، وفق المخطط الإسرائيلي الجاري تنفيذه (التهجير والضم والاستيطان في القطاع الذي ينادي به عدد من الوزراء الإسرائيلين ليل نهار ويقولون إنهم عرضوا الفكرة على نتنياهو وأبدى تفهمًا لها)، بحجة البحث عن العمل، أو تحقيقًا لما يقال إنه تهجير طوعي وما هو بذلك، لأن قطع كل أسباب الحياة في القطاع تضع أمام أعداد كبيرة من المشردين – الذين يعانون المرض والجوع والمجازر والعدوان والتهجير من منطقة إلى أخرى – طريقًا واحدًا، وهو الركض وراء أي مكان توجد فيه فرص عمل.

الأسئلة التي تطرح نفسها: ما الذي سيدفع حكومة نتنياهو إلى الموافقة على لجنة بالتوافق بين فتح وحماس، وهذا يعطي قوة وشرعية لحماس المطلوب إضعافها بشدة وليس تقويتها بأي حال من الأحوال، وهذا آخر ما يمكن أن توافق عليه إسرائيل وتريده؟ 

وإذا لم توافق عليها الحكومة الإسرائيلية لن تتمكن من العمل، ولن توافق عليها الإدارة الأميركية.

لماذا توافق حماس أن تشطب نفسها بنفسها

نقطة الضعف القاتلة في موقف المنظمة الصحيح من رفض تشكيل لجنة الإسناد المجتمعي أنه يطالب بموافقة حماس على عودة السلطة عبر حكومة محمد مصطفى، وهذا يعني قيام حماس بإلغاء نفسها بنفسها، وهذا صعب، ومن الممكن جدًا ألا توافق عليه. وقد يدفعها ذلك إلى البحث عن بدائل أخرى، بما فيها تشكيل لجنة مع آخرين أو حتى حكومة منفصلة في غزة لا تشارك فيها حماس بالاتفاق مع الاتجاه الإصلاحي في حركة فتح بزعامة محمد دحلان .

إن رفض اللجنة صحيح تمامًا، ولكنه يجب أن يترافق مع تقديم البديل والاستعداد لفرضه على الآخرين، وليس التكيف مع ما يطلبونه، وهو موجود بما تضمنه إعلان بكين الذي ينص على تشكيل حكومة وفاق وطني بمرجعية وطنية لا تشارك فيها الفصائل، وتفعيل الإطار القيادي المؤقت، وكذلك تفعيل مؤسسات منظمة التحرير لتضم الجميع إلى حين تشكيل مجلس وطني جديد بالانتخابات حيثما كان ممكنًا، وبالتوافق حيثما يتعذر اجراء الانتخابات.

أما الرفض من دون تقديم بديل فسيفضي إلى تسهيل تجاوز المنظمة والرئيس، أو سيؤدي إلى أن يقبل الرئيس لاحقًا بما يرفضه حاليًا، وربما إلى قبول ما هو أسوأ منه. فهل تتعظ القيادة من التجربة السورية، وهل يتعظ الرئيس عباس من تجربة بشار الأسد، فما يمكن القيام به اليوم قد يستحيل القيام به غدًا؟