حماد صبح: مآسي الشعب العربي من قياداته لا من ذاته..حماد صبح

حين سئل رئيس كوريا الشمالية عن إمكانية خضوع بلاده للتهديدات الأميركية بخصوص أسلحة بلاده النووية ؛ رد : ” لسنا عربا ! ” ، ومراده واضح الدلالة : العرب هم الذين يخضعون لتهديدات سواهم ، أي أنهم جبناء ضعاف لا شجعان أقوياء . وهم ، وهذه من عندنا ، لا يُحوِجون أميركا إلى تهديدهم ليخضعوا . علاقتها بهم علاقة آمر جائر بمأمور يستجيب  صاغرا لما يريده منه آمره .

ومن الفكاهيات هنا أن يتظاهر بعض الحكام العرب بمعصية  أميركا ، وتشاركهم هي في هذا التظاهر المنسق بين الطرفين ليظهروا أمام محكوميهم المقهورين شجعانا يتحدون أميركا ، وأنهم ليسوا أسودا على هؤلاء المحكومين وأرانب أمام أمامها  . وأوضح هذه الفكاهيات ما أشيع عن رفض محمد بن سلمان لطلبها بزيادة إنتاج بلاده من النفط في جو أزمة نقصه التي انفجرت بالحرب في أوكرانيا ، وعن تمرد  محمد بن زايد عليها ، على أميركا ، في الموقف من هذه الحرب الذي عدته  مخالفا لموقفها وموقف دول الناتو . يستحيل أن يخالف الاثنان إرادة أميركا ومواقفها ، وكل ما في الأمر تظاهرٌ بالمخالفة والمناكفة متفق عليه بينهما وبينها للسبب الذي بيناه سلفا .
وخضوع كثرة الحكام العرب لأميركا لا تفسير له سوى حمايتها لمواقعهم في الحكم ، وبدون هذه الحماية ستزيحهم شعوبهم في لمحة بصر ، وما كنا في حاجة لقول ترامب لهم في مستغلظا متعجرفا  : ” ادفعوا ! نحن نحميكم . ” ، ودفعت له الرياض  450ملياردولار ؛ استثمارا في بلاده ، وشراء أسلحة منها ، فصرخ محبورا مبشرا الأميركيين : ” وظائف ! وظائف ! وظائف !” ، وصرخ  عبد الله الغذامي: ” لله درك يا رياض العرب ! ” ، وشتان ما بين الصرختين . الأولى صرخة رابح ، والثانية صرخة خاسر ، وكنت أحسب عبد الله الذي أقدره ناقدا أدبيا أذكى وأحصف من أن تنفلت من بين شفتيه تلك الصرخة الخرقاء الضالة  ، لكنه الخضوع للحاكم الذي يصبح مع الزمن طبعا متمكنا في النفس لا تعي أبعاده وأخطاره المهلكة . الشعب العربي ليس ضحل احترام الذات لو كان حر الإرادة ، وكل تجليات الثقافة  العربية تظهر عمق احترام الإنسان العربي لذاته الفردية ، وذاته الجماعية ، أكانت أسرة أم قبيلة أم مجتمعا ، والشعر العربي في كل عصوره غني غنى واسعا باحترام الذوات الثلاث خاصة الفردية .
 يقول شاعر : ” وأكرم نفسي ، وحقك إنني إن أهنتها لن تُكرم على أحد بعدي ” ، وفي الحكمة العربية : ” أعزز نفسك تجدها ! ” ، وهي حكمة بعيدة الدلالة ، نفيسة التوجيه ، فمن لا يعز نفسه يفقدها ذلا ، وهذا موت معنوي قاتل للفرد والمجتمع . والفاجع المأساوي أن الحكام العرب في كثرتهم أوصلوا الأمة إلى هذا الموت . يهاجمها أعداؤها كل أنواع الهجوم الفتاكة فلا تتحرك أصغر حركة خوفا من عنف سطوة هؤلاء الحكام المطلقي الصلاحيات في قهرها وإذلالها وكسر عزمها في مواجهة الأعداء المستذئبين عليها كل صنوف الاستذآب الذي يستهدف نهش لحمها وإبادة وجودها . ولننظر إلى الأمم التي يدير شئون دولها قادة صالحون أكفاء كيف تثبت راسخة متحدية أمام عواصف شرور الأعداء ونكبات مطامعهم ! القادة الإيرانيون قدوة مثلى عظمى في هذا الثبات . البلاء الذي ثبتوا له في المفاوضات حول نووي بلادهم معجزة أسطورية تشرف شعبهم ، وتسيج بلاده ومصيره بسياج صلب عالٍ يستحيل اختراقه أو تسلقه ، وجيرانهم من الحكام العرب في وادٍ بعيد عن هذه القدوة المثلى العظمى في الذياد عن الكرامة والمصالح القومية ، وفوق ضياع الحكام العرب في هذا الوادي البعيد تراهم يعادون إيران استرضاء لأميركا وإسرائيل واستغراقا في الخضوع والاستذلال لهما .
وهاهي القيادة الوطنية الروسية تتحدى تغول الناتو وعدوانيته التي خططت لتطويق روسيا بأعضاء جدد فيه ، مثل أوكرانيا الروسية العرق والتي دامت 400 عام جزءا من دولة روسيا الواحدة ، والسويد وفنلندا ( تعني أرض النبيذ ) اللتين كانتا دائما محايدتين في تاريخهما الحديث وسط عواصف الحروب والصراعات الأوروبية العنيفة والمدمرة . الناتو لا يريد روسيا قوية ، ويطمع في جزئها الآسيوي الذي يؤلف 77 % من مساحتها الزائدة على 17 مليون كيلومتر مربعة ، ويراه أرضا محتلة هو أولى بها بحق الطمع الشره اللاأخلاقي الذي يميز دوله ، وفي مطلعها أميركا المتهمجة المتوحشة والتي لا تستحي من سرقة نفط سوريا القليل على فقرها ، وأخيرا شرعت تسرق قمحها . روسيا تعلم كل ذرة من نوايا الناتو الإجرامية نحوها ، وتقف لتلك النوايا في كل تفصيل وفي كل زاويةٍ صلبةً معاندة مصابرة لعلمها بالمصير المهلك المخيف الذي ينتظرها لو تمكنت مخالب الناتو وأظافره من عنقها . الصمود الروسي في وجه الناتو المجرم مدرسة لمن يريد أن يصمد دفاعا عن وطنه وشعبه وحقه المقدس في الأمن والكرامة .
ونعود إلى صاحبنا كيم جونج رئيس كوريا الشمالية الذي استهللنا حديثنا بسخريته من العرب . هذا القائد ، متابعا لأبيه ، صنع من نصف وطن قليل الموارد دولة مهابة الجبين ، وتوسل ترامب المتعجرف المتغطرس للاجتماع به ، فاجتمعا في ندية متبادلة ، ولم يعطِ ترامب أي تنازل . وعلى فقر بلاده فإنها ما من أمي بين مواطنيها ، وهذا إنجاز أسطوري .
إيران وروسيا وكوريا الشمالية قدوات في الذياد عن الوطن والكرامة ، والسبب المباشر أن قادتها وطنيون من صلب الشعب ، مخلصون له ، وليسوا مفروضين عليه لمنفعة أعدائه ومحميين من هؤلاء الأعداء ، وحين يكون القادة العرب من هذا النوع ستكون الأمة العربية في منعة إيران وروسيا وكوريا الشمالية ، وسيبرهن الشعب العربي أنه من أعظم الشعوب قدرة على بناء الدول وحماية الأوطان ، وأشدها اعتزازا بهويته القومية ، وأسرعها نصرة لأي جزء منه ينوبه عدوان أو هوان ، ولا سبيل للإتيان بقادة وطنيين مخلصين ينتمون للشعب العربي لا لأعدائه إلا إذا أزاح أتباع الأعداء وخدامهم ممن يحكمونه قهرا وجورا بالحديد والنار وتلجيم الأفواه . مآسي الشعب العربي المزمنة من قياداته لا من ذاته .
                                              ***
*إن العروبة ، يا بلابلها   روح على كف الفتى ودم . الشاعر جورج صيدح .
كاتب فلسطيني