حول إغلاق قناة «الجزيرة».. –

في السنوات السابقة كتبتُ عن «الجزيرة» عشرات المقالات، شارحاً سلبياتها ومخاطرها على القضية الفلسطينية، ودورها في دعم الانقسام، وفي إثارة الفتن، والتحريض الممنهج على «فتح» ومنظمة التحرير والسلطة، وكتبت عن عدم حياديتها، وافتقارها المكشوف للمهنية وأخلاق الصحافة، واجتزائها للحقائق، ودورها الخبيث في توجيه الرأي العام، وعن ممارستها التطبيع، وأنها كانت السباقة في استضافة المتحدثين الإسرائيليين، وإدخالهم إلى كل بيت عربي.. كتبتُ عنها الكثير، ولم أدعُ مرة واحدة لمقاطعتها، أو إغلاق مكاتبها.
لم أدعُ لمقاطعتها، أو إغلاق مكاتبها ليس حباً لها، ولا إعجاباً، ولا خوفاً من ردة فعلها.. بل لاعتقادي أن هذا الأسلوب غير مجدِ، ولا يخدم الغرض المطلوب؛ فالممنوع مرغوب أولاً، وحتى لا نفتح الباب للمزاودين بأننا ضد الصحافة، وضد حرية التعبير، ولأنه لا يمكن حجر أي صوت إعلامي مهما كان صغيراً، فما بالك بمؤسسة إعلامية ضخمة كالجزيرة.
لا أحد يستطيع أن ينتصر في معركة طرفها الآخر صحافي، وقديماً كانت كل قبيلة عربية تخاف من الشاعر، حتى أشجع الفرسان كانوا يتجنبونه، فبوسعه هجائهم أو مدحهم في قصيدة ستدوم طويلاً.. بل إن القيادة الحكيمة كانت تشتريه حتى لو كان تافهاً ورعديداً، إتباعاً لمقولة: «ذاك أحمق، لكنه مُطاع في قبيلته».   
لم أدعُ لمقاطعتها وهذا موقفي الشخصي ولا أُلزم به أحداً، ولأني دائم السعي للبحث عن الحقيقة المجردة، ولدي قناعة أن الحقيقة لا تجدها فقط في المصادر المحترمة والجادة والرصينة، بل تجدها أو تجد أجزاء منها، أو نقيضها في المصادر الشعبوية والتافهة والصحافة الصفراء، ولدى الكتاب الانتهازيين والمتسلقين الذين لديهم حاسة سادسة ترشدهم إلى اتجاهات الريح قبل الآخرين.. ومن خلال تجميع الصورة وتحليلها وفهمها أستطيع تكوين الفكرة والاقتراب أكثر من الحقيقة.
ومع ذلك، أرى أن قرار إغلاقها بصورة مؤقتة قرار صائب كما فهمته بأنه تعبير احتجاجي ضد الجزيرة وسياستها التحريرية، ومن الممكن أن يفتح أذهان الناس على الدور الوظيفي الذي تقوم به هذه القناة.
قرار الإغلاق لا علاقة له بحرية الصحافة وحرية التعبير، فالسلطة لم تغلق القناة، بل أغلقت مكتبها في الضفة الغربية، وهذه الخطوة لا تؤثر قيد أنملة على مواصلة «الجزيرة» عملها وبثها سواء في الأراضي المحتلة أو في أي مكان آخر.. مراسلو الجزيرة وموظفوها وأطقمها الفنية ما زالوا موجودين في الضفة، وبوسعهم مواصلة نقل الأخبار وبث التقارير واستضافة من تشاء القناة استضافتهم بطرق عديدة ودون أن تضطر لتحدي القانون وقرار السلطة.. وكل من يشتغل في الإعلام يعرف ذلك.
أما عن سؤال المواطن وقلقه عن تغطية أخبار فلسطين وفضح ممارسات الاحتلال ونقل معاناة شعبنا… إلخ، فأولاً لم تقم السلطة بحجب ترددات القناة، أو حظر بثها عبر المنصات الرسمية والخاصة (حضارة، مدى..)، وبوسع كل مواطن مشاهدتها كيفما شاء، وثانياً إضافة إلى الجزيرة لدينا عشرات المحطات الأُخرى ومن كافة الاتجاهات تفعل ذلك، ومن يبحث عن أخبار المقاومة سيجد أمامه قنوات الأقصى وفلسطين اليوم والميادين والمنار وغيرها الكثير.. ومن يبحث عن الحقيقة سيجدها في عشرات المصادر، وبالتالي دعونا من هذا التباكي السخيف.
على مدى عقود طويلة من النضال الفلسطيني في معارك الثورة، وفي السجون والميادين، وانتفاضة فلسطين الأولى وحتى بداية الانتفاضة الثانية أوصل الشعب الفلسطيني رسالته وصوته إلى كل العالم، وحقق أهم الإنجازات الدبلوماسية والإعلامية، وبفضل تضحياته العظيمة فضح أكذوبة إسرائيل الديمقراطية وأكذوبة جيشها الأخلاقي، ولم نعرف طيلة تلك السنوات لا الجزيرة ولا غيرها.. واليوم يستطيع كل مواطن بهاتفه النقال فضح ممارسات الاحتلال، وإيصال صوته إلى كل الدنيا، دون الحاجة لفضائيات تتاجر بدمنا، وتروج للاحتلال ولروايته، وتستضيف قادته ليبرروا للمشاهد العربي جرائمهم.
طبعاً لا أقلل من شأن الإعلام، ولكن أي إعلام نريد؟ والسؤال كيف نطور إعلامنا الفلسطيني؟ صحيح أن ميزانية «الجزيرة» تفوق بكثير ميزانية السلطة كلها، ومعها بضعة دول أخرى.. لكن المسألة الأهم في المحتوى والأسلوب والخطاب وتحديد الهدف.. وهذا ما نفتقره بشدة. وللأسف.
بعض معجبي الجزيرة يقرنون بينها وبين شيرين أبو عاقلة، وهذه مقاربة مرفوضة، فالشعب الفلسطيني بأسره وكل أحرار العالم بكوا حزناً على الشهيدة القديسة ليس لأنها بنت «الجزيرة»، بل لأنها شيرين.. وبالمثل احترامنا للصحافي الكبير وليد العمري وجيفارا البديري ووائل الدحدوح ليس لأنهم يعملون في الجزيرة، بل لأنهم يصدحون بالحق وينقلون صوت فلسطين الحقيقي، لذلك تم استبعادهم ولم تعد الجزيرة تستدعيهم لنقل تقرير ما إلا في حالات نادرة جداً.
انتقاد «الجزيرة» لا يعني أبداً الإعجاب بسائر القنوات، خاصة العربية (التي حظرتها «حماس» في غزة)، ولا يعني أن كل ما تفعله خطأ وكل ما تقوله كذب، ولا يعني أن السلطة بلا أخطاء وخطايا.. توقفوا عن هذه المغالطات المنطقية، توقفوا عن تلك الثنائيات المتقابلة بحدية..  
لعبت «الجزيرة» الدور الريادي في ارتقاء الإعلام العربي وأحدثت نقلة نوعية في أدائه وأسلوبه، وحررت الفضاء العربي من الإعلام الرسمي والحزبي، وفضحت الكثير من ملفات الفساد في البلاد العربية، وأتاحت المجال لقوى المعارضة وللمقموعين للتعبير عن صوتهم.. كل هذه الإيجابيات على أهميتها لا تغفر للقناة ما فعلته في الشعب الفلسطيني، خاصة في قطاع غزة، حيث كان لها الدور الأكبر في تضليل الرأي العام العربي والعالمي وفي إطالة أمد العدوان.. وكل تلك الإيجابيات لا تغطي على دورها المشبوه تجاه القضية الفلسطينية، ولا عن أهدافها المرسومة بدقة وخبث لضرب وحدانية تمثيل المنظمة للشعب الفلسطيني، ولجعل الشعب الفلسطيني بلا تمثيل سياسي، أو ترك الشعب للفراغ التمثيلي في هذه المرحلة الحساسة، وجره نحو الدمار والاقتتال الداخلي.. وتقويض السلطة لصالح الفوضى والتخريب والفلتان الأمني.  
نعم، بهذا الدور الوظيفي الذي تضطلع به «الجزيرة» تعاملت السلطة معها ليس بصفتها قناة إعلامية، بل بصفتها أداة سياسية لمشروع تخريبي كبير وخطير.. بصفتها أداة في يد مشغليها.