خطوة نحو التحرير، أم نكبة جديدة؟

مع اقتراب حرب الإبادة من عامها الأول، سنجري نقاشاً ومراجعات وتقييماً نقدياً لها ولتداعياتها، عبر ثلاث مقالات.

في هذه الحرب صمد الشعب وصمدت المقاومة، وظهرت قضية فلسطين مرة أخرى قضية تحرر عالمية، تمثل قيم العدالة والحق والحرية في مواجهة الظلم والاحتلال والعنصرية. فقد أسقطت السردية الإسرائيلية المبنية على الأكاذيب وخطاب الكراهية والعنصرية، وقدمت السردية الفلسطينية المبنية على الحقائق، وخطاب العدالة والقيم الحضارية.
في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر برهن المقاتل الفلسطيني على شجاعته وتقدمه، وأنه قادر على الإمساك بزمام المبادرة، وقدّم نموذجاً قيادياً بيّن قدرات المقاومة على التخطيط والقيادة، والسيطرة والتمويه، والخداع الاستخباري. الأمر الذي أدى إلى سقوطٍ مدوٍّ لنظرية الردع الإسرائيلية. ومع ذلك وقعت أخطاء تكتيكية قاتلة، بعضها اعترفت بها قيادات «حماس».
وقد فتح «طوفان الأقصى» نافذة على المستقبل، وأنعش الأمل من جديد بإمكانية التحرك ومجابهة العدو، بل وضربه في عقر داره، وأن هزيمة إسرائيل ممكنة، وليست مستحيلة كما كان راسخاً في الذهن العربي الرسمي. وبيّن مجدداً مدى شعبية خيار المقاومة، واستحالة القفز عن الشعب الفلسطيني وحقوقه، فهو الرقم الصعب رغم كل شيء.
كما استنهض «الطوفان» الشعوب العربية ودفع بها إلى الشوارع، ومنحها فرصة مواجهة أنظمتها الاستبدادية والفاسدة. وبنفس القدر أيقظ شعوب العالم، وجعلها تفهم بوضوح أكثر جذور القضية الفلسطينية، لتدرك أنها كانت مغيبة بفعل دعاية إعلامية مضللة، حجبت عنها رؤية الحقيقة، فرأت إسرائيل على حقيقتها العدوانية البشعة، وأدركت أن الشعب الفلسطيني هو الضحية.
كما أجّل «الطوفان» موجة التطبيع العربي، والتي كانت ستنهي القضية، وستثبّت إسرائيل ليس دولة طبيعية في المنطقة، بل كقوة مهيمنة.
وفي الجانب الآخر أنهى «الطوفان» مرحلة طويلة كانت إسرائيل تُقنع جمهورها أنها حققت الردع، وجلبت لهم الأمن، وأنها أخضعت الفلسطينيين، بل إن أحداً في هذا الإقليم لن يفكّر بإطلاق رصاصة واحدة على إسرائيل، فجاء «الطوفان» ليكسر معادلة التفوق الإسرائيلي، وبضربة مزلزلة؛ حيث تكبدت إسرائيل خسائر كبيرة أبرزها إهانة منكرة لجيشها، لتتكشف هشاشتها، والشك بقدرتها على حماية مشاريع دولية كان يجري الإعداد لها.
على المستوى العالمي كشفت الجماهير والنخب زيف الرواية الإسرائيلية حول ديمقراطيتها، وتحضرها، والأمان الذي جلبته لشعبها، والسلام الذي ستعطيه للمنطقة، كما شاهدت مدى توحشها.
ومع كل ما حققه «الطوفان»، ورغم أهميته، إلا أنه أخفق في تحقيق هدفه الكبير المتمثل في إنهاء الاحتلال، وكل النوافذ التي شرعها لم تصل إلى آفاقها المطلوبة، وكل نقاط التغيير التي أحدثها لم تنضج، ولم تتحول إلى فعل حقيقي وملموس.. وبذلك سيغدو «الطوفان» مجرد صفحة جديدة في سفر الكفاح الفلسطيني، وهذا مهم جداً، ولكنه لا يكفي. 
فهل مثّل «الطوفان» خطوة نحو تحقيق الانتصار والتحرير، أم مثّل نكبة جديدة؟ 
هذا سؤال صعب؛ الخطوة نحو التحرير هي الخطوة التي يمكن معاودتها، وتطويرها، والبناء عليها، ومواصلة التراكمات وصولاً إلى الهدف الكبير.. وخلاف ذلك تعني انتكاسة وتراجعاً، وقد تصل مستوى النكبة.
في هذه الحرب العدوانية تعرضت فلسطين لمأساة كبرى، فاقت حدود الكارثة، وبلغة الأرقام، فاقت أعداد الضحايا من شهداء وجرحى ومفقودين ونازحين، ومن تدمير للبيوت والمؤسسات كل ما تعرض له الفلسطينيون منذ نكبة 1948. الفرق الجوهري بين هذه المأساة ونكبة 48 أن الفلسطينيين خسروا في النكبة الأولى هويتهم السياسية، وتفككت الأواصر والبنى والمؤسسات التي ظلت تربطهم كشعب، وهاموا على وجوههم في الشتات بلا إطار وطني جامع، وبلا كيان سياسي يمثلهم. وكان هذا أكبر خطر وجودي تعرضوا له طوال التاريخ.
بعد عام على هذه الحرب العدوانية يواجه الفلسطينيون الخطر ذاته من جديد: خطر التشتت (بفعل التهجير القسري والطوعي)، وخطر تبدد الكيانية السياسية؛ بمعنى أنه إذا ما هيمن الانقسام وتعمقت التجاذبات السياسية والنزاعات الداخلية والصراع على من يمثل الفلسطينيين، ومن يتحدث باسمهم، ومن يتلقى أموال الإعمار والمساعدات… سيفقد الفلسطينيون الإطار الوطني الجامع، وسيبددون الكيان السياسي الذي يمثلهم، وبالتالي سنكون إزاء نكبة جديدة، نكبة أشد وأمرّ وأخطر. 
وفي المقابل، ورغم فداحة الخسائر التي لا تعوض، ورغم الآلام والأحزان، إلا أن نتائج وتداعيات الحرب قد تفتح للفلسطينيين نافذة للأمل، إذا ما استجمعوا قواهم السياسية، ورصّوا الصفوف، ووحدوا الخطاب، سيفرضون على العالم تسوية سياسية معقولة، قد توصل إلى دولة فلسطينية مستقلة، وقد تمثل نوعاً من التعويض عن كل تلك التضحيات.  
وبحسب مقالة لِعوني المشني، «خلقت هذه الحرب حالة من التناقض لدى كل من حاول فهمها، ووضعته أمام واقع مركب ومربك ومحير؛ فمن ناحية سيرى حجم الخسائر الفلسطينية الفادحة في الأرواح والممتلكات، وهي مأساة تبعث على الحزن والقهر، ومن ناحية ثانية سيرى الاشتباك والمواجهات واستبسال رجال المقاومة، وهي الحالة الطبيعية التي يجب أن يكون عليها الوضع، فالفلسطينيون تحت الاحتلال، ومن البديهي أن يكونوا في حالة صراع واشتباك مع العدو.
وهذا التناقض في المشهد يعمق الحيرة، ويجعل الأفكار المقولات تتصادم فيما بينها لدرجة الخروج عن المنطق؛ فمقولة: إن الشعوب الخاضعة للاحتلال ملزمة بالنضال بكل الأشكال ومن ضمنها الكفاح المسلح لنيل حريتها واستقلالها ودون ذلك لا يمكن لها أن تنتصر.. تتصادم مع مقولة ضرورة حماية الشعب، باعتباره القيمة العليا ورأس المال الأهم والغاية الأسمى من الكفاح.. ومقولة: إن موازين القوى في النضال الوطني لا تقاس بلغة الأرقام وعدد الدبابات والطائرات فالأهم من ميزان القوى إرادة الشعب واستعداده للكفاح والتضحية.. تتصادم مع مقولة ضرورة الأخذ بالأسباب ودراسة الواقع والمعطيات وتقييم الموقف علمياً لا عاطفياً.. ومقولة: ضرورة التنظيم والتخطيط وحُسن الإدارة وتقدير الموقف بعقلانية قبل المعارك وأثنائها.. تصطدم مع مقولة: ضرورة تقديم الشعب تضحيات جسيمة تنجم عن تلك المعارك.. وهكذا في أغلب الحوارات والمقاربات».
والأهم أن رؤيتنا لإنجازات «طوفان الأقصى» تصطدم بقوة مع رؤية العدد الهائل من الشهداء والجرحى وعذابات الأطفال والنساء والتدمير الشامل لقطاع غزة، وهذا المشهد المعقد أكبر سبب لكل إرباك. سيما أن «طوفان الأقصى» لم ينتهِ بالصورة التي كنا نتأملها ونرجوها.

سنتابع النقاش في مقالات لاحقة.