كتب د. أحمد يوسف :
كنت في السياسة غريماً لدحلان، حيث إن موقعي الحركي كقيادي في حركة حماس يفرض عليَّ العمل لإنجاح مشروع الحركة في تصدر مشهد الحكم والسياسة، وأن تبسط الحركة يدها ونفوذها في الشارع الفلسطيني، باعتبارها طوق النجاة وأمل الخلاص لتحقيق طموحات شعبنا في التحرير والعودة، كما أنَّ معركة “وعد الآخرة” القادمة نحن رجالها ومعقودة نواصيها بيد فرساننا الأشاوس.
لا شك أنَّ المقاومة التي قادها شباب القسَّام كانت طليعية بامتياز خلال الانتفاضة الأولى، وأعطت لحماس الحق في التباهي بأن الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة ما كان ليحدث لولا تضحيات المقاتلين من كوادرها. نالت الحركة الكثير من المجد والتقدير بين أبناء شعبنا الفلسطيني، ونتج عن هذا الإنجاز الوطني رفع أسهمها وارتفاع رصيدها في التاريخ النضالي، وجعل مكانتها تتعالى بعد انتفاضة الأقصى عام 2002، وما قامت به على المستويات الاجتماعية والتربوية والخيرية والتي احترفت إدارتها وتوظيفها بكل حكمة وذكاء، مما أوصلها إلى عقول وقلوب الغالبية من طبقة المستضعفين وذوي الحاجة الذين وجدوا فيهم مناط أحلامهم لرد كيد أعدائهم ونفس الفجر الذي انتظروه طويلاً.
جاء فوز حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006 مفاجأة حتى لحركة حماس نفسها، حيث كانت تقديراتنا أننا في أحسن الأحوال سنحصل على 40%، وهي نسبة تؤهلنا لنكون شركاء في الحكم أو توَّسد موقع المعارض العنيد، القادر بشرعيته الانتخابية وقوتهالشعبية على تحجيم يد السلطة، ووقف مسلسل التنازلات التي آلت إليه أحوالها.
كان دحلان يظهر دائماً في “بوز المدفع”، وكأنه المتمرد الوحيد الذي تجرأ على هيبة حماس، وخرجت منه تصريحات لم تستحسنها الحركة، فتحركت المنابر الدينية والآلة الإعلامية لأداء ما اعتبرته واجباً للدفاع عن قلاعها وحصونها ومشروعها الإسلامي.
في العقل الباطن لخفايا هذا الصراع السياسي، كان المشهد الذي يتشكل في ذهنية الكثير من الإسلاميين أن عليهم واجب التخلص من “أبو لهب”، لتدين لهم البلاد والعباد.
كان دحلان -آنذاك- في بداية عقده الخامس، مصدوماً بالفاجعة التي حطّت رحالها في ثكنات ومعاقل حركة فتح؛ الحركة التي انتسب لها في ريعان شبابه وعاش في ظلال نضالاتها وأناشيد ثورتها “غلَّابه يا فتح غلَّابه”، تنكسر اليوم،وتأخذ الهزيمة بتلابيبها أمام حركة حماس!! كان من الطبيعي أن لا تستوعب ذهنيته المبنية على ثقافة “أم الجماهير” حالة الخسارة والتراجع والإهانة التي لحقت بحركة فتح، فخرجت منه الكثير من التصريحات النارية التي اعتبرتها حركة حماس تهديداً لشرعيتها. من هنا، تكرَّست حالة العداء تجاه دحلان، وصار مستهدفاً إعلامياً، على غير ما كان عليه حال الآخرين،الذين نكَّسوا أعلامهم، واستسلموا لما اعتبروه جزاءً بما كسبت أيديهم.
من ذلك المشهد البعيد في سنواته، جرت الكثير من المياه تحت الجسر، وتغيَّر الشاب النزق النمرود وتكيَّف بعد العديد من الصدمات وخيبات الأمل حتى من تنظيمه، والعديد من القيادات التي أسهم في صناعتها ثم قلبوا له ظهر المجن، ومالوا -بحقارة- لمن عنده السلطة والمال، أما المبادئ والأخلاق وشرف الخصومة فكان لسان حالهم “بلها يا دحلان واشرب ميتها”ّ!!
دحلان -اليوم- وأنا أحاوره بروح الصداقة والتآخي، أجد نفسي أمام شخصٍ آخر، تجدد كثيراً، ولكنه في الحقيقة لم يبتعد عن حركته الأم (فتح)، ولديه تطلعات أن ينصلح حالها،وتستعيد مكانتها ورؤيتها الوطنية، وتنعدل بوصلة سفينتها مع غياب الفرعون.. دحلان اليوم هو غير دحلان الأمس، فقسوة الجُرح ونذالة الطعنات التي تعرض لها من ذوي القربيوسنوات الاغتراب القصري خارج الوطن، قد أنضجته كثيراً، وتوسعت بدروس تجربة الغربة تلك آفاقه واهتماماته الوطنية، فلم يعد له من شغلٍ شاغلٍ إلا كيف يمكن أن يوفر لهذا الشعب لقمة عيش كريمة تُشعره بالأمان، وتحفظ له كرامته الوطنية، وللشباب فرصة عمل لا تُلجئه لركوب سفن الموت طلباً لحياة تأخذه بعيداً عن الوطن.
في سياق التكيف والنضج الذي اكسبته له السنون، يعي دحلان اليوم أنَّ “لعبة السياسة”تتطلب الكثير من المهارة الذكاء، وأن نُقدِّر لخطوتنا في العمل النضالي موضعها، حتى لا تزل قدمٌ وتعثر بعد ثبوتها، وأن المقاومة وهي تكتيك نضالي مستحق وحتمية كفاحية لشعبٍ محتل، هي رؤية يجب أن نتوافق على كيفية إدارتها وأدائها، حتى لا يكون عملنا النضالي ضد الاحتلال مستهدفاً من قبل المتربصين بنا من الأعداء، وبالتالي منح الذرائع لهم لإلباسناثوب الشيطان واتهامنا بالتطرف والإرهاب. دحلان -اليوم- ومن خلال ما دار بيننا من حوار طويل على عدة أيام، يعكف مع إخوانه على كيفية استثمار حالة التعاطف العام مع الشعب الفلسطيني وعلاقاته الوطيدة ببعض الدول الخليجية، وبالدرجة الأولى مع الإمارات، على جلب المزيد من الدعم والمساعدات والمشاريع الإنتاجية إلى قطاع غزة، أما صراعات السياسة على من يخلف الرئيس على عرش السلطة فلا تعنيه بشيء، ولا حضور لها في نقاشاته أو ضمن أولوياته. وفيما يتعلق بحركة حماس،فالرجل لم أسمع منه أيّ تقليل من أهمية نضالها السياسي وفعلها المقاوم، ومركزية الشراكة معها إذا اقتضت الضرورة، وتحركت الحياة السياسية لصناعة رؤية وطنية في مشهد الحكم والسياسة.
وبخصوص الاتهامات التي تعرَّض لها في السابق، فقد طوى صفحتها، وتركها لمن عنده تُحتكم الخصوم. دحلان -اليوم- وأنت تحاوره تشعر أنك أمام أبٍ لأبناء شعبه، وأنه يفكر بعقلية رجل الدولة الذي تجاوز عمره الستين، فكسته الحكمة وصقلت وعيه السياسي تجارب السنين وآلام المعاناة، فأبعدته بمسافات عن نزق وشطحات وفتونة الشباب، التي ألِفناها وتعودنا عليها في أزقة المخيم وحواريه المكتظة بصخب الحياة.
أخي أبا فادي.. على نهج العمل من أجل وحدة شعبنا ودعم قضيته، سأقف بقلمي وتاريخي وما تبقى لي من أجل إلى جانبك، ليجتمع الشمل وينصلح حال شعبنا ويستقيم أمره، وتعود أحلامنا التي عشقناها في سنوات شبابنا ونضالنا الطويل تراودنا من جديد، لبناء وطنٍ نفخر بمستقبله واستقلاله، والذي يقوم حكمه على الشراكة السياسية والتوافق الوطني..ولإخواني في حركة حماس وتيار فتح الإصلاحي، دعونا نقدم نموذجاً متميزاً وفريداًفي التعاون والتنسيق وتصالح الرؤية النضالية، يستعيد معه شبابنا آمالهم وأحلامهم، وتسترد فيه قواعدنا الشعبية حيويتها وحضورها المشبَّع بالثقة والأمان، واثبات قدرتنا وجدارتنا وأهليتنا على استمرارية النضال حتى قيام دولتنا الحرة والمستقلة.